الحرب العالمية الأولى.. شرارة اغتيال أشعلت صراعا غيّر وجه العالم

بدأت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 كصراع أوروبي محدود، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب عالمية طاحنة استمرت 4 سنوات، وانخرط فيها أكثر من 70 دولة، وأسفرت عن مقتل نحو 22 مليون شخص، وأسهمت في تغييرات سياسية كبرى، وكانت الشرارة التي أطلقت سلسلة من الثورات والانقلابات في عدد من الدول.
اغتيال ولي عهد النمسا يشعل الحرب
انطلقت الحرب في أعقاب اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته، على يد طالب صربي يُدعى غافريلو برينسيب، في 28 يونيو/حزيران 1914 بمدينة سراييفو، ورغم أن هذه الحادثة كانت السبب المباشر للحرب، فإن هناك أسبابًا غير مباشرة مهدت الطريق إليها.
من أبرز هذه العوامل التوتر الدولي الذي ساد مطلع القرن العشرين، نتيجة الأزمات المتكررة، أبرزها أزمة البلقان، حيث تنافست الدول الأوروبية على السيطرة على المنطقة وطرد الخلافة العثمانية منها، وسيطرت النمسا على البوسنة والهرسك في 1908، كما شهدت أوروبا تصاعدًا للنزعة القومية وصراعات استعمارية في شمال إفريقيا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وازداد التوتر الدولي بفعل التنافس الاقتصادي والتجاري بين الدول الإمبريالية، وسعي كل منها للسيطرة على الأسواق والموارد الأولية، إلى جانب انخراطها في تحالفات عسكرية متنافسة وسباق تسلح متسارع.
اندلاع الحرب وتوسع التحالفات
وجهت النمسا إنذارًا إلى صربيا بعد الاغتيال، مطالبة إياها بالاستجابة لعشرة مطالب خلال 48 ساعة، ورغم موافقة صربيا على معظم المطالب، إلا أن النمسا اعتبرتها مرفوضة، وأعلنت الحرب عليها في 28 يوليو/تموز 1914.
وبدأت التحالفات العسكرية تتفاعل، فروسيا دعمت صربيا، وألمانيا دعمت النمسا، ثم أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا وفرنسا، وتبعتها بريطانيا التي أعلنت الحرب على ألمانيا في 4 أغسطس/آب 2014.
تشكلت مجموعتان متحاربتان: قوات الحلفاء (فرنسا، بريطانيا، صربيا، بلجيكا، الجبل الأسود) ودول المركز (ألمانيا، النمسا-المجر)، ثم انضمت اليابان والصين إلى الحلفاء، بينما انضمت الدولة العثمانية إلى دول المركز في نوفمبر/تشرين الثاني 1914، بعد أن حاولت البقاء على الحياد.

الحرب تتحول إلى عالمية
خلال السنوات الأولى، سيطرت قوات دول المركز على مساحات واسعة، وحققت ألمانيا انتصارات مهمة، خاصة في بولندا ولتوانيا، ومع ذلك، فشلت في اختراق الجبهة الغربية الفرنسية، وبدأت الحرب تتخذ طابع حرب الخنادق، مع استخدام أسلحة جديدة كالدبابات والطائرات.
على الجبهة العثمانية، خاضت الدولة العثمانية معارك شرسة في الدردنيل وغاليبولي، ونجحت في صد القوات البريطانية والفرنسية، ما اضطر الأخيرة إلى الانسحاب، لكنها فرضت حصارًا بحريًا على الشام فاقم الأوضاع الاقتصادية.
كما خاض العثمانيون معارك ضد الإنجليز في المنطقة العربية، وخسروا السيطرة على بغداد، والقدس لاحقًا، وتعرضوا لثورة الشريف حسين المدعومة من بريطانيا، التي سميت بـ”الثورة العربية الكبرى” عام 1916.
دخول الولايات المتحدة وانسحاب روسيا
في عام 1917، انقلبت موازين القوى. دخلت الولايات المتحدة الحرب بعد أن أغرقت ألمانيا سفنًا تجارية أمريكية ضمن حرب الغواصات، وتخلت عن مبدأ الحياد، وجاء دخولها نتيجة لضغوط “صهيونية”، ورغبة في التصدي لاحتمال تحالف ألمانيا مع المكسيك.
في المقابل، انسحبت روسيا من الحرب بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، ووقّعت معاهدة “برست ليتوفسك” مع ألمانيا في مارس/آذار 1918. هذا الانسحاب منح ألمانيا فرصة لتركيز قواتها على الجبهة الغربية، لكنها فشلت في تحقيق نصر حاسم.
معركة أميان وهجوم “المائة يوم”
في أغسطس/آب 1918، شن الحلفاء هجومًا مضادًا في معركة أميان شاركت فيه 400 دبابة و120 ألف جندي، تبعه ما سُمي بـ”هجوم المائة يوم”، ونجح الحلفاء في إجبار الألمان على التراجع، حتى طلبت ألمانيا الهدنة.
وقّعت ألمانيا هدنة “كومبين” في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، داخل عربة قطار في غابة كومبين الفرنسية، ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الساعة 11 من اليوم الحادي عشر للشهر الحادي عشر.

الكلفة البشرية والدمار
خلّفت الحرب نحو 8.5 ملايين قتيل عسكري، وأكثر من 20 مليون جريح، ومقتل نحو 13 مليون مدني، فيما أُسر 29 مليون شخص. كانت معارك “فردان” و”السوم” من الأكثر دموية، حيث خلّفت الأولى نحو 770 ألف ضحية، والثانية نحو 1.2 مليون.
الحرب أيضًا شرّدت 10 ملايين مدني، ورملت 3 ملايين امرأة، ويتمت 6 ملايين طفل، ووضعت أكثر من 20 مليون مدني تحت الاحتلال.
التسويات السياسية وتقسيم العالم
عُقد مؤتمر فرساي للسلام عام 1919 بحضور ممثلي 32 دولة، ووقّعت الدول المهزومة معاهدات فرضت عليها شروطًا قاسية. تم تحميل ألمانيا مسؤولية الحرب، وفُرضت عليها تعويضات ضخمة، واقتطعت أجزاء من أراضيها.
وقّعت النمسا معاهدة “سانت جرمان”، وهنغاريا معاهدة “تريانون”، وبلغاريا معاهدة “نيي”، بينما وقّعت الدولة العثمانية معاهدة “سيفر” التي رُفضت لاحقًا، واستبدلت بـ”لوزان” عام 1923.
آثار الحرب على العرب
انضمت الدولة العثمانية إلى دول المركز، وكانت هزيمتها بداية النهاية لحكمها في المنطقة. دخل الشريف حسين الحرب ضد العثمانيين بدعم بريطاني، بعد مراسلات مع السير هنري مكماهون، تلقى فيها وعودًا بإنشاء دولة عربية كبرى.
لكن بريطانيا وفرنسا وقعتا اتفاقية سايكس-بيكو السرية عام 1916 لتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، وتكشفت تفاصيلها بعد الثورة البلشفية، وبالتوازي، وعدت بريطانيا في “وعد بلفور” عام 1917 بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ما مهد لنكبة لاحقة.
خريطة عالمية جديدة
أدت الحرب إلى تفكك الإمبراطوريات العثمانية، والروسية، والألمانية، والنمساوية، وسقوط الأسر الحاكمة في أوروبا، وبروز الاتحاد السوفيتي كقوة صاعدة، كما أنشئت عصبة الأمم في جنيف، لكن من دون إشراك “دول المركز” بداية، وفشلت لاحقا في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
انتهت الحرب العالمية الأولى بواقع دولي جديد، عزز النفوذ الأمريكي والياباني، وترك أوروبا في حالة ضعف سياسي واقتصادي، وأدى إلى زعزعة الاستقرار العالمي لعقود لاحقة.