اصطفاف البيت السعودي

الملك الجديد يحمل ثقافة واسعة ولعل هذا بدا في منظر الجنازة حيث تواجد نفر من المفكرين والمثقفين العرب في إشارة بالغة الأهمية , وكان غياب أخرين منهم قائد الانقلاب في مصر وداعموه في الامارات ملحوظا ومقصودا

منتصر الزيات*

تبقى المملكة العربية السعودية أثيرة في قلوب المسلمين من كافة أصقاع المعمورة , بينما تحتل خصوصية لدى العالم العربي , والمعنى هنا في الحالة الشعبية لدى العامة الذين لا ينظرون كثيرا في العلاقات الدبلوماسية بين حكوماتهم من جهة والحكومة السعودية من جهة أخرى.
ومتابعة الشأن السعودي الرسمي يفضي إلى رغبة آل سعود في عدم الدخول في علاقات حادة سلبية مع أي من جيرانها بشكل رئيس فضلا عن حكومات العالمين العربي والإسلامي فهي دائما تفضل عدم التدخل في شئون الأخرين , ولوحظ أنها تتبع سياسة “النفس الطويل” في معالجة النزاعات الحدودية بينها وبين جاراتها في الإطار الخليجي , وتصنف في كل مواقع التعريف أنها من كتلة عدم الانحياز ويضع عليها وضعها الديني والروحي باعتبارها راعية الحرمين الشريفين مسئوليات كبيرة في مراعاة التوازن في العلاقات العربية والإسلامية
ولا يمكن إنكار الدور السعودي في رعاية “الأقليات المسلمة” في أوربا  أو دعم المسلمين في أفريقيا وفق منهج ثابت لا يعمد إلى مأسسة الدعم أو يؤدي إلى توتر في العلاقات مع الحكومات التي تعيش في ظلالها تلك الأقليات , وكذا إنشاء وبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية حتى لو تقلص ذلك في فترة حكم الملك عبد الله في العشر سنوات الأخيرة
فرضت عليها الظروف عند غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين دولة الكويت أن تتحرك في إطار حلف دولي لتحرير الكويت وطرد القوات العراقية منها , وتراوحت علاقتها بجارتها قطر  بين المأزومية الحادة والبرود الدبلوماسي غير أن تحركها في اتجاه دعم نظام 3 يوليو 2013 كان استثناءً مرجوحا في ظل تراتيب سياساتها الخارجية لم تفهم ضروراته أو دواعيه خصوصا في ظل تعاطف سعودي شعبي كبير مع الرئيس محمد مرسي والرغبة في منحه فرصته الكاملة
يوعز “البعض” تغير توجهات الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز إلى بزوغ نجم  “خالد التويجري” الشاب الطموح مواليد عام 1960 والذي تدرج من كونه باحثا قانونيا في الحرس الوطني ليتحرك بسرعة فائقة ويصدر الملك الراحل قرارا بتعيينه رئيسا للديوان الملكي في عام 2005 وسكرتيرا خاصا له  فضلا عن كونه أمينا لهيئة البيعة , فاستطاع بقناعاته وعلاقاته المتأمركة أن يؤثر في ذهنية “ولي العهد” الذي كان يوصف بالرجل العروبي المتدين .
كان وصول التويجري إلى هرم السلطة في المملكة مؤشرا لتغيرات ثقافية جذرية حدثت في السعودية أزعجت الدوائر العلمية والدعوية الفقهية التي رأت في تحركاته تغييرا للبنية الثقافية والعلمية نحو تكريس الفكر العلماني وتغريب العقل السعودي بعيدا عن مستقراته التي أسسها الوالد المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله
وبلغ نفوذه نتيجة اكتسابه ثقة الملك الراحل عبد الله بلا حدود , مما أوجد قلقا داخل أسرة آل سعود من تدخلاته في شئون الحكم واستحداثه هيئة البيعة وبعد أن كان نقد “نفوذ” التويجري يجري داخل أوساط الأسرة المالكة همسا تحول إلى العلانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أمراء مرموقين وأيضا من الأمراء الأحفاد حيث وصفه بعضهم بأنه ” لا علاقة له بالدين”
في هذا الصدد يمكن النظر لما سمي “بانقلاب الديوان” إثر وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز , وكان إعلان إعفاء خالد التويجري إيذانا باتجاه الأسرة المالكة نحو “اللحمة” وإعادة مسارها الوسطي في توثيق العلاقات الخارجية من جهة على هذا النحو الذي وضع منهجيته الملك المؤسس وسار عليه كل خلفائه من بعده قبل أن يتحول المسار بطريقة دراماتيكية في عهد الملك الرحل عبد الله
يمكن فهم “انقلاب الديوان” في إطار تراتيب علاقات “الأمراء” داخل البيت السعودي حسبما استقر قديما , التي رأي فيها الجميع بعد وقت من التوتر في عهد الملك الراحل , خصوصا مع بروز مستجدات بتولي الحوثيون مقاليد الحكم في اليمن مع وجود شيعي مؤثر في المنطقة الشرقية تحتاج إلى اصطفاف قوي داخل الأسرة المالكة يساعدها في تجديد شبابها والحفاظ على تراثها مع اعتماد العصرنة بديلا للتصدعات والانشغال بحيازة مواقع سيادية قد تضعف سلطة الدولة والأسرة
توسع “أنصار الشرعية” في طموحاتهم التي استقبلت تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم استقبالا حسنا مع ترامي المعلومات عن موقفه المعارض للتدخل في الشأن المصري على هذا النحو الذي جري في الدعم اللا محدود الذي منحه الملك الراحل للانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي
أظن أن الملك الجديد يختلف فعلا عن سلفه الراحل في أمور كثيرة وليس في تلك الجزئية التي تتعلق بدعم الانقلاب من عدمه , فالرجل حافظ لكتاب الله وهذا في حد ذاته يعطيه نفسا هادئا في التعاطي مع الأمور ويجعله أكثر ميلا نحو التمسك بالأصول التي أقامها الملك الوالد في تعزيز تعاليم الإسلام وتكريم العلماء
أيضا الملك الجديد مثقفا ثقافة واسعة ولعل هذا بدا في منظر الجنازة حيث تواجد نفر من المفكرين والمثقفين العرب في إشارة بالغة الأهمية , وكان غياب أخرين منهم قائد الانقلاب في مصر وداعموه في الامارات ملحوظا ومقصودا
غير أني أعتقد أن “أنصار الشرعية” في مصر أفرطوا في تفاؤلاتهم فالملك الجديد منهجيته لا تسمح بالتدخل في شئون الأخرين هي ذاتها التي دفعته للاعتراض على دعم “السيسي” بهذه الطريقة وكان له تصريح شهير “أن المملكة تدعم الشرعية ”
لذلك كانت مساعي “ولي العهد” آنذاك تميل إلى محاولة إصلاح تجمع بين تثبيت قائد الانقلاب رئيسا باعتباره أمرا واقعا وعودة الاخوان إلى المسرح السياسي بنسبة تمثيلهم الحقيقي دون مبالغة وتصفية مواقفهم القضائية بطريقة قانونية صحيحة
كانت رؤية ولي العهد تكمن في أن الظرف مناسبا لتحقيق تلك المعادلة فعدم حصول السيسي على دعم شعبي في الانتخابات الرئاسية وقلة الاقبال الجماهيري في الاستفتاء الذي سبقها يكشف عن تراجعه وضعفه وفي نفس الوقت تعرض الاخوان لضربات أمنية مؤثرة أضعف واربك حساباتهم مما يجعل الطرفين قابلين لإمكانية تحقيق المصالحة
كان وجود الأمير محمد بن نايف إلى جوار “ولي العهد” سببا إضافيا في محاولة تهدئة الأوضاع في مصر , فالأمير يعرف عنه ميله إلى منهجية الحوار والتفاهم قبل اتخاذ التدابير الأمنية , وبدا ذلك في محاولاته إدارة الحوار مع من يوصفون ب”المتشدديين السعوديين” في الفترة التي انتشرت فيها تفجيرات المنشآت وخطف وقتل الأجانب .
جاءت الاطاحة “بالتويجري” تمثل نقطة التقاء بين كل فروع الأسرة المالكة للاصطفاف والتوحد مراعاة لاعتبارات مواجهة المخاطر المحدقة , وتمثل إنهاءً حقيقا للدعم اللا محدود لنظام السيسي وعودة التوازن في علاقات المملكة مع جيرانها   
_______________

*كاتب ومحام مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان