في ذكرى يوليو… ماذا تبقى منها؟

تحل هذه الأيام الذكرى الثالثة والستين لثورة 23 يوليو، وبعد أكثر من ستة عقود عليها ماذا تبقى منها؟ يجدر بنا في البداية أن نعود إلى المبادئ الستة لثورة يوليو. يتبع

أحمد قناوي*

 

تحل هذه الأيام الذكرى الثالثة والستين لثورة 23 يوليو، وبعد أكثر من ستة عقود عليها ماذا تبقى منها؟ يجدر بنا في البداية أن نعود إلى المبادئ الستة لثورة يوليو ألا وهي: القضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، وهي المبادئ التي كانت دستورًا وشعارًا لثورة يوليو والتي أصبح الرجوع إليها وقراءاتها مع الواقع الذي تعيشه مصر أقرب إلى حد كبير لقراءة قصيدة رثاء.

حرص كل من السادات ومبارك على ربط شرعيتهم بثورة يوليو، وتزايد الربط  في المرحلة الحالية في تشبيه بين السيسي وجمال عبد الناصر، وكان الربط والتشبيه كلاهما دغدغة لمشاعر جماهير مطحونة تبقى لديها مجرد ذكرى أن رجلاً حاول وفعل، أصاب وأخطأ من أجل الفقراء، فإذا الحال يصل إلى تصريح وزير العدل المقال كيف يلحق ابن عامل النظافة في وظيفة قضائية حتى لو كان متفوقًا وهو تصريح يمثل كشفًا لحالة قائمة من الطبقية الشديدة تعيد تكرار ماذكرة  بعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى المصري أنه لا يحق لابن العامل تولي وظيفة قضائية، يتراص ذلك في صورة متناغمة مع احتجاجات أكثر من مائة وثمان وثلاثين شابًا متفوقين في دراسة القانون لاستبعادهم من التعيينات في النيابة العامة لمجرد أنهم ينحدرون من أصول اجتماعية بسيطة، لم يشفع لهم تفوقهم وسهرهم الليالي ووقف حاجز الأصل الاجتماعي سببًا كافيًا لمنعهم من التعيين في النيابة العامة رغم أن هناك نصًا دستوريًا باتًا متواترًا في دساتير مصر، الناس سواء أمام القانون، غير أنه يبقي نصًا خجولاً فضلاً عن أنه نص لا ينتهك فقط بل يصفع كذلك، ربما لم يقدم هؤلاء المتفوقين وغيرهم على ما أقدم عليه عبد الحميد شتا ذلك المتفوق الذي حالت أصوله الاجتماعية دون التعيين في وزارة الخارجية فألقى بنفسه في النيل منتحرًا، لم يقف الأمر على هذا الحد بل وصل إلى قبول توريث المناصب العامة في الكثير من الوظائف الهامة حتى تلك التي تحتاج إلى تفوق علمي لطبيعتها فورث أبناء أساتذة الجامعة أبناءهم  وإذا وجدت رغبة التوريث وهي عارمة بقي أمر التفوق يسيرًا !!!.

إن مجرد طرح فكرة ماذا تبقى من ثورة يوليو أو حتى من شعاراتها في هذه اللحظة؟ يعيد طرحًا مثيرًا للسخرية ولسوء التقدير لأن طرح الأسئلة عمومًا يهدف إلى إزالة لبس أو فك غموض أو استجلاء حقيقة أو أمر ما، لكن حين تكون الحقائق واضحة وضوحًا لا ينكر فإن طرح هذا النوع من الأسئلة يمثل تزيدًا لا حاجة لأحد أن يقوله فضلاً عن الاستماع إليه، غير أن حلول الذكرى وبرقيات التهنئة وإجازة الدولة احتفالاً بهذا اليوم كل هذا يقتضي طرحًا للسؤال من زاوية تأكيد الإجابات التي باتت معروفة سلفًا.

ولا يستطيع مقالاً محدودًا بحجمه أن يفند الأدلة ردًا على السؤال البسيط، لكن مجرد النظر إلى حال الفلاحين والعمال التي ادعت ثورة يوليو أنها جاءت لأجلهم وقامت تحقيقًا لتطلعاتهم، فالفلاحين سبحت منهم الأرض التي وزعت عليهم أو مكنتهم من حيازتها أو الانتفاع بها، والعمال بات أمرهم معروفًا حين اتخذت الدولة قرارًا بخصخصة القطاع العام وتسريح عشرات الآلاف من العمال بما عرف بالمعاش المبكر، فضلاً عن تراجع الصناعة المصرية منذ تبني السادات سياسية الانفتاح الاقتصادي حتى أصبحت مصر سوقًا لكل المنتجات العالمية في واقع تنافسي يفتقد الحماية الوطنية فلحقت الصناعة بالزراعة وجرى تدميرها تحت سمع وبصر بل وبرغبة البعض.

وقد يكون قراءة إقامة حياة ديمقراطية كأحد أهداف الثورة في دولة ليس بها مجلس نيابي منتخب بعد مرور أكثر من عام على استحقاقه بل مع وجود عشرات الآلاف في السجون وشيوع الصوت الواحد والقرار الواحد يعيد هذا الوطن برمته إلى نهايات عصر معمر القذافي قد يكون ذلك أمرًا صادمًا فضلاً عن أنه أمرًا مثيرًا للسخرية، فهذه الذكرى للثورة تأتى في سياق يصبح الاحتفال بها مثلاً لإطلاق زغاريد الفرح في ساحة عزاء، ليس الأمر فقط عن جيل من الشباب وهو القطاع الأغلب محبطًا بل ومنتكسًا لاختطاف ثورة شعبية عظيمة وهو ثورة يناير دون الدخول إلى أسباب ذلك الآن، وإنما تخطي ذلك الى الشعب بكل طوائفة حين تراجعت كلمات مثل الشعب المصري العظيم وهي الكلمات التي تصاحب في العادة الثورات الواسعة إلى الجيش المصري العظيم والأمن المصري العظيم في ترفع واضح على ذكر الشعب المصري وتدشينًا لمصطلحات تعرفها الأنظمة الفاشية فقط، ” الدستور المصري طموح ويحتاج وقتًا لتفعيله ” كلمات معبرة قالها السيسي تجسد طبيعة المرحلة تراجعت حتى عن فكرة الادعاء الباطل باحترام الدستور إلى فكرة أنه طموح ويحتاج وقتًا إلى تفعيله كي يصك تلك المرحلة بأنها الأسوأ ديمقراطيًا في التاريخ المصري الذي عرف المؤسسات النيابية منذ أكثر من قرن من الزمان في منطقة لم تكن تعرف حتى معنى لكلمة برلمان وانتخابات.

كنت قد لاحظت رفع صور كثيرة لجمال عبد الناصر في ميدان التحرير في فترة حكم الرئيس محمد مرسي وقبل 30 يونيو وهو الأمر الذي كان لافتًا لي فبادرت إلى سؤال صديقي الكادر الناصري الذي كثيرًا ما رافقني أو رافقته إلى ميدان التحرير ” ألا تلاحظ كثرة صور جمال عبد الناصر مع الناس؟ ” كانت إجابته السريعة عبد الناصر هو الزعيم الأكثر شعبية والذي يمثل الحلم للبسطاء، واجهته بسؤال آخر لم أكن أعرف له إجابة كل الذين يرفعون الصور لا نعرف أحدهم وأنت كادر ناصري شاهد على كثير من الاحتجاجات التي رفعت صور جمال عبد الناصر، ما هو السر في تلك اللحظة؟ كانت إجابته هذا يؤكد على أن جمال عبد الناصر ملك للجميع من نعرفهم ومن لا نعرفهم، وتوالت الأحداث بعد أن كانت ترفع صورة جمال عبد الناصر وحدها أصبحت صورة واحدة لناصر وعبد الفتاح السيسي بالزي العسكري لكليهما رغم أن صورة ناصر الشعبية هي بالزي المدني، لكن كان هناك من يدفع للربط بين الصورتين وبين الزي العسكري لكليهما، حتى تبدلت فيما بعد بأيام الصورة المنفردة لناصر بصورة له في ذات القطع مع صورة عبد الفتاح السيسي وسرعان ما اختفت صورة ناصر أو تراجعت لتبقى صورة واحدة هي صورة عبد الفتاح السيسي أدركت بعدها خطأ إجابة صديقي الكادر الناصري بأن رفع صورة جمال عبد الناصر كان عملاً عفويًا، وبات واضحًا أن الأمر كان مخططًا بعناية مخرج في مشهد يبعث رسالة بصرف النظر عما تحويه من مضامين وبصرف النظر عن الربط المتعسف لصورتين، كان الهدف أن العسكر هو المنقذ، وأن الشخصية التي تحظى بقدر كبير من التقدير لم يكن إلا شخصية عسكرية، وأن المؤسسة العسكرية التي أنجبت جمال عبد الناصر هي ذاتها المؤسسة التي أنجبت عبد الفتاح السيسي، وأن الشعب الذي قدر ناصر قادر على تقبل فكرة حاكم عسكري بعد رئيس مدني منتخب ثبت للشعب فشله سواء كان هذا راجعًا إلى دفعه للفشل أو كان راجعًا لأسباب تتعلق به أو بجماعته المنتمي إليها وهي جماعة الإخوان المسلمين، كان المسرح قد مهد وكانت صور ناصر مجرد خلفية لعمل ما، وكان العدد الكثير لهذه الصور يعني أن الصخب المصاحب للمشهد قد بلغ  مداه، فحذفت الصورة وتجسدت الرسالة ووضح الهدف مقعد الرئاسة لشخصية عسكرية، كل هذه الصور الصاخبة هي التي بررت أن يعلن عبد الفتاح السيسي ترشحه وهو يرتدي الزي العسكري، فلم تكن الصورة شاذة عن مسرح تم إعداده بإحكام فبدت الصورة متسقة في واقع يربط بين الأشياء حتى لو لم يكن بينها مجرد رابط سوى مجرد الزي العسكري.

كانت أولى القرارات الجديدة قطعًا لوهم الربط بين جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي، رفع الدعم عن المحروقات ورفع أسعار كثير من السلع، وحديث السيسي نفسه دون لبس أو غموض ” الدعم أخطر على مصر من الفساد ” !! وتراصت عناوين ومواقف وحتى تشريعات تصفع كل من ربط بين عبد الفتاح السيسي وجمال عبد الناصر وتعيد إلى الذاكرة إذن من الذي كان يرفع صورة ناصر في المظاهرات التي سبقت الإطاحة بالرئيس محمد مرسي وهو السؤال الذي اتضحت فيما بعد إجابته أن أجهزة وليس مواطنين هم من كانوا يحالون الربط بين جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي لتهيئة المناخ للقبول بشخصية عسكرية في سدة الحكم، وحين حدث ذلك ألقى بكل ما ارتبط بناصر من أقرب نافذة لتتوالي مفاجآت مزعجة  ومؤسفة لأصحاب هذا الربط.

لم يعد هناك الآن في مصر في هذه الأيام أي بقية من ثورة أو حركة أو انقلاب 23 يوليو سوى ذلك اليوم الذي يُمنح فيه موظفي الدولة إجازة رسمية مدفوعة الأجر، فالعدالة  الاجتماعية حدث ولا حرج بعد أكثر من ستة عقود، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة يجيب عليه أن سلطة التشريع والحكم في يد واحدة وأن القوانين تصدر بشكل مفاجئ كل يوم وبأرقام قياسية لم يصل إليها أي مجلس نيابي مصري وفي موضوعات هي من صميم المجالس النيابية ولا حاجة ولا سرعة تبرر إصدارها، والدستور الذي كان يحرص المستبد على احترامه كذبًا ونفاقًا ليس إلا ” طموح يحتاج وقتًا لتفعيله ” فسقط حتى ادعاء الاحترام إلى عدم الالتزام صراحة وبوضوح لأن وقت التفعيل لم يحن بعد، وأن مبدأ الفصل بين السلطات وهو أحد أعمدة الأنظمة غير المستبدة على الأقل تلاشى بهدم كل الفواصل بل وبجمعها وبالإصرار عليها أن تظل في يد واحدة، بادرت صديقًا ناصريًا السؤال عن صحة ما كان يقوله من أن السيسي تكرار لجمال عبد الناصر ضحك الرجل ضحكة عالية وساخرة لم أشأ بعدها أن استوضحه فقد كان كل شيء واضح.

* كاتب مصري- محام بالنقض

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه