د. عصام عبد الشافي يكتب: إشكاليات الثورة والإصلاح

هنا تغلق الأبواب في وجه قنوات التطور والتغيير التقليدية، ويصبح لا مفر من التغيير بعيداً عن المؤسسات القائمة والقوانين الحاكمة، فيكون البديل المطروح هو الثورة. يتبع
![]() |
د. عصام عبد الشافي*
يتحدد مفهوم التغيير السياسي بناءً على صفة هذا التغيير، فإن كان التغيير إيجابياً محموداً، يهدف إلى محاربة الفساد وإزالته، وتحقيق الإصلاح، هنا يطلق عليه تعريف الإصلاح السياسي، الذي يتم النظر إليه على أنه “تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، وبالتالي محاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، بحيث يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه”.
أمَّا إن كان التغيير السياسي يهدف إلى تكريس الفساد فإنَّه يقصد به في هذه الحالة تغيير وتعديل نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، بوسائل مختلفة، بحيث يتحقق دون النظر إلى المقاصد المرجوة منه”.
والإصلاح السياسي خلافاً للثورة لا يهدف سوي إلى تحسين وضع النظام السياسي، فهو تطوير غير جذري في شكل الحكم، دون المساس بأسس هذا النظام. ولهذا يخرج منه الانقلاب لأنه يشمل أدوات غير سلمية للتغيير، ويهدف إلى تغيير القائمين على النظام أكثر من كونه يهدف إلى إصلاح النظام. وإذا كانت الثورة أحد أشكال الإصلاح السياسي، إلاَّ أنَّها تعبير عن إصلاح سياسي راديكالي وسريع.
أما مفهوم التحديث السياسي فهو مفهوم مركب من مفهومين: الأول، مفهوم التحديث والثاني، مفهوم “سياسي”، ويقصد بالتحديث الانتقال من وضع إلى آخر على وفق معيار معين، وبوصفه السياسي أنه التغيير الذي يشمل كل ما له صلة بالعملية السياسية.
التحديث السياسي
وقد حاول المفكر الأمريكي “كارل دويتش” دراسة التحديث السياسي داخل المجتمعات من حيث مصدر التغيير الذي قد يكون داخلياً نتيجة الصراع، أو خارجياً نتيجة تحديات خارجية أو نتيجة لاحتكاك ثقافي بثقافات مختلفة، كما حاول دراسة التحديث السياسي من زاوية دينامية انتشار التجديدات كأن تبدأ من الحضر إلى الريف أو من العاصمة إلى الأقاليم، أو من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا، هذا إلى جانب دراسة نوعية التغيير هل هو تغير ثوري مفاجئ أم تدريجي بطيء؟ وما هي العلاقات بين المتغيرات السياسية وبين التغييرات في القيم والاتجاهات والسلوك السياسي داخل هذه المجتمعات؟.
أما “ليدز” فقد حاول توضيح الأسباب التي تؤدي إلى التحديث السياسي، وذكر منها: الأسباب التكنولوجية والعلم والتصنيع، ومراحل الاضطراب السياسي والاجتماعي (مثل: الحروب الأهلية والدولية والأزمات) ووجود الأفراد الحركيين (وهم الأشخاص الذين يملكون نفوذاً أساسياً وقوة سياسية، ويرغبون في التحديث) وطبيعة الاتجاهات السائدة (فالمجتمعات التي تؤكد على الإنجاز يكون أفرادها أكثر تقبلاً للتحديث مقارنة بالمجتمعات التي لا تؤكد على الإنجاز، ومن ثم يسعى أفرادها للحفاظ على الوضع الراهن) وكذلك طبيعة المثل العليا والأهداف التي تطرحها الأيديولوجيات السائدة في مجتمع ما، والتي قد تكون ذات أساس ديني أو وضعي.
وتناول “ابتر” التحديث السياسي من منظور: لماذا تتغير النظم السياسية؟. بينما تناول “ديفيد آيستون” التحديث السياسي من منظور فكرة النظام وتحليل النظم، ورأى أن النظام السياسي هو مجموعة من التفاعلات التي تتم من خلالها عملية التخصيص السلطوي للقيم، وتشير هذه العملية إلى خمسة عناصر أساسية: المدخلات، وعملية التحويل، والمخرجات، والتغذية الاسترجاعية، وبيئة النظام السياسي.
وهكذا يبدو النظام السياسي كدائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي تبدأ بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات وتقوم التغذية الاسترجاعية بمهمة الربط بين المدخلات والمخرجات، ولكن النظام السياسي لا يستجيب إلى كل المطالب التي تواجهه بل يقوم بعملية اختيار لهذه المطالب وإذا ازداد حجم هذه المطالب فإنها تؤدي إلى عجز النظام عن الاستجابة إليها وهو ما يُحدث نوعاً من عدم التوازن بين مدخلات النظام السياسي وقدراته، الأمر الذي يؤدي إلى توتر سياسي قد يصل إلى حد العنف وانقطاع قنوات الاتصال السياسي.
ويميز “آبليوم” بين حجم التحديث ومداه واتجاهه، فيفرقون بين التغييرات العميقة أو ذات التأثير المهم وتلك الفرعية والثانوية، وبين التغييرات طويلة المدى والتغييرات قصيرة المدى وبين التغييرات التي تؤدي إلى تغير البنية، وبين التغييرات التي تؤدي إلى المحافظة على البنية.
وتحدث “ويلش وبنك” عن وجود نمطين للتحديث السياسي: أحدهما ثوري يرتبط بالعنف والآخر تطوري يرتبط بالإصلاح، وكلا النمطين يتفق مع الآخر في الهدف، وهو التحديث نحو الأفضل، ويؤكد النمطان أهميه وجود أدوات وقوى معينه كالأحزاب السياسية والنخب السياسية والبيروقراطية والمؤسسات السياسية للقيام بمهام التحديث والتغيير.
النمط الأول: نمط التغيير الثوري:
التغيير الثوري هو نمط خاص للتغير الاجتماعي، لأنه يتطلب في بعض الحالات استخدام العنف في إدارة العلاقات الاجتماعية. ومن أبعاد التغيير الثوري: تغير البنية الاجتماعية، تغير القيم ومعتقدات المجتمع، تغير المؤسسات، تغير في تكوين القيادة وأساسها الطبقي، تغير النظام القانوني، واستخدام العنف في الأحداث التي تؤدي إلى تغير النظام.
والتغيير الثوري لا يقتصر على التغيير السياسي، وإنما هو صيغة تبدأ سياسية وتنتهي بأن تكون اجتماعية فتحدث تغيرات كمية ونوعية في النظام الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أن العنصر المميز للتغير الثوري هو الاعتماد على العنف.
فالثورة في أحد تعريفاتها هي “نشاط إنساني يقترن بمشروع جماعي واجتماعي يستهدف تغيير الأوضاع الاجتماعية القائمة تغييراً نوعياً ممتداً نحو المستقبل”. والثورة بوصفها مشروعاً جماعياً واجتماعياً يمثل محاولة من أجل تقديم فهم أعمق للثورة، وقد أكد ماركس أهمية المشروع بالنسبة للثورة من خلال تأكيده أهمية الإيديولوجية الاشتراكية بالنسبة للثورة، والهدف النهائي الذي يقترن به المشروع الثوري هو ليس إحداث نتائج سياسية فحسب بل نتائج اجتماعية تتمثل في تغيير العلاقات الاجتماعية.
ويقدم التصور الماركسي للثورة نمطاً للتغير هو التغيير الثوري العنيف، وتأريخ المجتمع عند ماركس ضرب من التغيير الثوري نتيجة لصراع الطبقات تمثل طريقة الإنتاج أساساً له، فالتغيير نوع من الانتقال من عصر إلى عصر يبدأ بالتغيير في طريقة الإنتاج التي تغير بنية العلاقات الاجتماعية.
النمط الثاني: نمط التغيير التطوري:
التطور كأسلوب للتحديث أو التغيير السياسي يتضمن معنى السلمية والتدريجية والعمل من خلال المؤسسات القائمة، وهو تغير سلمي شرعي يتم على وفق القوانين والمؤسسات القائمة في المجتمع، وهو أيضا تغير تدريجي لا يتضمن تغيرات جذرية في وقت محدود من الزمن، بل تغييرات تحدث نتيجة تراكمات بطيئة لتغيرات جزئية تتم عبر مرحلة طويلة من الزمن، ومن هنا فإن الوقت هو عنصر هام في التمييز بين الأسلوب الثوري والأسلوب التطوري، فبينما يسعى الأول إلى اختصار عامل الوقت والإسراع بعملية التحديث فإن الثاني يترك للوقت فرصته الكاملة، والعلاقة بين الثورة والتطور هي علاقة جدلية.
فالتطور هو سُنّة الحياة في الطبيعة وفي الكون وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولكن عندما تنشأ أوضاع مؤسساتية وتنظيمية تتعارض مصالحها مع استمرار التطور تصبح الثورة ضرورة اجتماعية، وعندما تضيق قنوات الاتصال السياسي وتعجز عن نقل مطالب قوى جديدة في المجتمع أو عندما تفشل المؤسسات السياسية من أحزاب وبرلمان عن التعبير عن مصالح قوى اجتماعية صاعدة، هنا تغلق الأبواب في وجه قنوات التطور والتغيير التقليدية، ويصبح لا مفر من التغيير بعيداً عن المؤسسات القائمة والقوانين الحاكمة، فيكون البديل المطروح هو الثورة.
__________________________
*باحث مصري في العلوم السياسية
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
