عصام تليمة يكتب: نحو مراجعات لفقه التعامل مع غير المسلمين

تثار بين الحين والآخر قضية الآخر في الإسلام، أو غير المسلم في المجتمع الإسلامي، وكيف يتم التعامل معه، وتختلف وجهات النظر حوله، وحول حقوقه، ومعاملته

 عصام تليمة*

تُثار بين الحين والآخر قضية الآخر في الإسلام، أو غير المسلم في المجتمع الإسلامي، وكيف يتم التعامل معه، وتختلف وجهات النظر بشأنه، وحول حقوقه، ومعاملته، فنرى تباينا في المواقف الفكرية عند المفكرين والمسلمين المعاصرين، بين من يتعامل مع قضاياهم بموقف متشدد، أو موقف متسامح، فلماذا تغيب هذه النظرة في فكرنا المعاصر؟، وهل لهذه النظرة أصل في تراثنا الإسلامي كذلك، أو في أدبيات التراث، وفي أدبيات إسلامية معاصرة كذلك، وما سببها؟

نحاول في هذه المقالات مناقشة الأسباب وراء كل هذه المواقف التي قد يراها البعض انتقاصا لحقوق المواطنة، أو تشددا فيها.

نصوص الدين
وبداية أحب أن أوضح أمرا مهما وهو: أن هذه السلوكيات وجدت بين أتباع الديانات المختلفة، ووجدت بين أتباع الدين الواحد، تزداد أو تقل حدتها، لكنها وجدت، بل ربما رأينا ممارسات فيها من الشدة والإقصاء بين أتباع دين واحد، أكثر مما نراه بين أتباع دينين مختلفين، وهو ما دونته كتب التاريخ من مجازر بين المسيحيين واليهود، وبين المسيحيين بمختلف طوائفهم، مثل ما قام به الكاثوليك نحو البروتستانت، ونحو غيرهم من المذاهب المسيحية الأخرى. فكل هذه الممارسات وإن كانت دوافعها ردود أفعال، أو سياسة شخصية، مع إنكارها لا تسبب إشكالا بقدر ما تكون المشكلة عندما تكون عنوانها الدين، أو يستدل عليها بنصوص من الدين.

والفارق هائل بين ما حدث على مدار التاريخ في معاملة الآخر دينيا والتعامل معه إسلاميا، سواء من حيث وقائع التاريخ، أو من حيث النظرة التي يكون فيها نوع من الإقصاء، أو عند نيل الحقوق يكون فيها أقل من المسلم، وفي رأيي: أن هذه النظرة التي نراها في بعض كتبنا التراثية، وفي بعض السلوكيات المعاصرة نتجت عن عدة أسباب فيمن تولوا التنظير للقضية قديما وحديثا، وهي:

1ـ ترك المُسلَّمات والعموميات والأصول الإسلامية:
الخطأ الكبير الذي يقع فيه كثير من الباحثين: أنه يلجأ للمتشابهات، والنصوص الجزئية في الموضوع الذي يتناوله في قضايا غير المسلمين، مهملا بذلك كليات الإسلام، والتي قام عليها تشريعه وحضارته، وهي تعتبر أمهات الفضائل، وعوامل وحدة فهم الأمة للإسلام، من قضايا كلية لا يختلف عليها اثنان، من نحو: البر والعدل والمساواة، فمن المسلمات التي بينها القرآن الكريم في التعامل مع غير المسلمين، آيتان مهمتان من كتاب الله، في سورة الممتحنة، يقول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة: 9،8. فهاتان آيتان من كتاب الله، حددتا الدستور العام الذي يتم التعامل به مع غير المسلم، وقد رهنت ذلك بأمر مهم، هل هو محارب أم مسالم، للمحارب معاملة المحارب، وللمسالم معاملة البر والقسط، والبر أعلى درجات الخير، والقسط أعلى درجات العدل.

التكريم الإلهي للإنسان بالقرآن
وتجد نصا مؤسسا في التعامل مع الناس، يضعه القرآن ويركز عليه، وهو مبدأ: التكريم الإلهي للإنسان، والحفاظ على كرامته، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء: 70، فالآية هنا تبين أن الله قد كرم بني آدم بالإطلاق، دون تمييز، وأن كل ما يؤدي إلى إهانة الإنسان فهو مرفوض.

ومن النصوص المهمة والمؤسسة كذلك في العلاقة بين الناس، قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13. فالهدف من خلق الناس، وجعلهم شعوبا مختلفة: لتعارفوا، فكل ما يؤدي إلى التناكر لا التعارف، فهو يتعارض مع مبدأ خلق الناس، كما أوضحه القرآن.

كما تُترك نصوص عامة وأصيلة تؤسس للعدل وعدم الظلم في الإسلام، لتستبدل ببعض فتاوى تتجه لظلم غير المسلم، بدعاوى لا تستقيم، ناسين أن الله عز وجل قال في كتابه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء: 105-113.، وهي آيات نزلت في اتهام غير مسلم بالسرقة، وهو بريء منها، تعاطف المسلمون فيها مع المسلم ضد اليهودي، ونزل القرآن ينصفه، وينتصر له على المسلم السارق، لتكون دستورا في التعامل بعدم الظلم لغير المسلم.
ويترك من العموميات قاعدة عظيمة هامة في الإسلام، وهي: الأصل في الأشياء الإباحة، فنرى أحكاما تصدر في التعامل مع غير المسلم، تمنع لا لدليل صحيح عليها، بل لأصل المنع الذي لا دليل عليه، بل دلت الشريعة الإسلامية على الإباحة في الأصل، إلا ما ورد في الشرع نص صحيح صريح يقضي بالمنع والتحريم، وبذلك اتسعت دائرة التحريم فيما يخص علاقة المسلم بغير المسلم.
ومعلوم كلام الأصوليين والفقهاء، في أهمية ألا يناقش الفقيه أو العالم قضية جزئية في الإسلام بمعزل عن كلياته الكبرى، فتظهر الشريعة بالتناقض، وحاشاها ذلك، بل يكون النقص قد أتى من سوء الفهم، أو من سوء التطبيق

__________________

* من علماء الأزهر الشريف.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان