سمير العركي يكتب: الاتفاق التركي الروسي قراءة في التحولات

سمير العركي*

 
بدا الطرفان وكأنهما يسابقان الزمن من أجل الوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار في سوريا ، فدرجة التوافق بين أنقرة وموسكو على الخطوط العريضة -على الأقل – غير مسبوقة ، والولايات المتحدة خارج الخدمة لحين استلام الرئيس المنتخب دونالد ترمب السلطة رسمياً .
اتفاق يدرك رعاته الرسميون أنه خرج إلى الحياة هشاً ضعيفاً ، ويحتاج إلى صبر ومثابرة إضافة إلى مزيد من الإصرار ليقوى مع مرور الأيام ، كي يصير نواة ومقدمة إلى حل سياسي يستوعب مكونات المجتمع السوري في حكومة تعبر عن جميع الأطياف دونما استثناء .
لكن وعلى الرغم من كل ذلك فإن الاتفاق حال إمضائه ونجاحه في جمع الفرقاء في العاصمة الكازاخية أستانا بعد أيام قليلة ، وصولاً إلى ” مانفستو ” جامع لمراحل التسوية السياسية ،  فإنه سيمهد لمجموعة من التحولات المهمة في المنطقة التي لن تقتصر على الملف السوري – حتى وإن انطلقت منه – بل قد تمتد إلى إعادة ترتيبها من جديد ، على أساس جملة من التموضعات المستحدثة على نحو يدفعنا إلى محاولة اكتشافه في الجانبين التركي والعربي .
تركيا وإعادة التموضع الإقليمي

سيكون من الخطأ البين محاولة قراءة تقلبات الموقف التركي وتطوراته بعيداً عن سياقاته الزمنية ، وظروفه الإقليمية والدولية ، فالمتتبع لسياسات أنقرة تجاه الثورة السورية لا يجد كثير عناء لملاحظة تفاوتها صعوداً وهبوطاً ، إلا أنها بالرغم من ذلك حافظت على الحد الأدنى المقبول من دعم الثورة السورية واحتضان اللاجئين ، وتوفير  الدعم السياسي لكثير من فصائل المعارضة ، ثم التطور الأخير بتحرك قطع الجيش التركي في الشمال السوري لقطع الطريق أمام “وصل ” الكانتونات التي سيطرت عليها ميليشيات الحماية الكردية YPG تمهيداً لإقامة فيدرالية  .
تتبع مسارات السياسة الخارجية التركية لا يمكن فصله عن مجمل التطورات الإقليمية خاصة التي أصابت بلدان الربيع العربي وفي مقدمتها مصر ، والتي أدت إلى فقدان أنقرة لحلفاء موثوق بهم ، ثم الاضطرابات الداخلية التي مازالت تركيا تعاني منها والتي تمثل تحدياً أمنياً بالغ الخطورة في ظل استهداف المدن الكبرى والمدنيين من قبل عناصر حزب العمال الكردستاني PPK  وتنظيم الدولة الإسلامية، ثم محاولة تقويض النظام السياسي من قبل التنظيم الموازي الذي يقوده فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة ، عن طريق انقلاب عسكري عنيف في منتصف يوليو/تموز الماضي .
هذه التطورات وما ارتبط بها من تفاصيل تكشفت أمام صانعي القرار التركي خاصة فيما يتعلق بالدور الأمريكي – الأوربي في السعي إلى تفخيخ الأوضاع الداخلية والعمل على الإطاحة بالسلطة الشرعية ، أدت إلى إعادة تموضع للسياسة الخارجية تبدت مظاهرها في الآتي : 
1- إعادة ترتيب الأولويات في الملف السوري بحيث وضعت تركيا إفشال المخطط الأمريكي الساعي إلى إنشاء فيدرالية كردية على رأس أولوياتها – على حساب الإطاحة ببشار الأسد – خاصة بعد عبور الميليشيات الكردية إلى غرب الفرات بزعم محاربة تنظيم تنظيم الدولة(داعش) ، وهو ما أدى إلى إطلاق عملية درع الفرات العسكرية بالتنسيق مع قوات الجيش السوري الحر .
2- التقارب التركي – الخليجي والذي شهد تسارعاً لخطواته في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشل حيث توجت بقمة تركية – خليجية على مستوى وزراء الخارجية في 13 أكتوبر/ تشرين أول الماضي ، والتي احتضنتها العاصمة السعودية الرياض ،ورغم أن التقارب مازال يركز على المسار الاقتصادي بصورة أكبر ، ولم يتطور إلى تعاون عسكري واضح حتى الآن خاصة في الملف السوري ، إلا أنه يؤشر إلى تعاون كبير بين الجانبين خصوصاً بعد تجاوز أزمة الملف المصري والذي مثل في السابق نقطة خلاف جوهرية بين أنقرة ودول مجلس التعاون الخليجي عدا قطر  .
3- إعادة الدفء إلى العلاقات التركية – الروسية بعد أشهر من الشد والجذب ، في أعقاب إسقاط الطيران التركي مقاتلة روسية عقب اقتحامها المجال الجوي ، وهي الحادثة التي أدت إلى تراجع حاد للعلاقات بين البلدين ، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة كانت كفيلة بتغير كبير في موقف أنقرة تجاه روسيا ، خاصة بعد الصدمة التي تلقتها من حلفائها في حلف الناتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة في العديد من الملفات وعلى رأسها التورط في محاولة الانقلاب الفاشل ، والمسارعة إلى سحب منظومة صواريخ الدفاع الجوي في أوج الخلاف التركي – الروسي ، إضافة إلى الموقف الأمريكي الفاتر من المقترح التركي الملح بضرورة إقامة منطقة حظر طيران في الشمال السوري ، بل ذهاب واشنطن إلى تسليح ودعم الميليشيات الكردية ، كل هذا أدى إلى مراجعة تركيا لموقفها من روسيا في ظل احتياجها إلى تفاهمات مع الجانب الروسي لإطلاق عمليات درع الفرات وهو ما حصلت عليه وباتت قواتها على تخوم مدينة الباب الاستراتيجية بريف حلب .
هذه التموضعات مكنت تركيا من لعب دور مؤثر على صعيد التسوية السياسية في ظل احتفاظها بعلاقات جيدة مع كثير من فصائل المعارضة السورية ، ما يعني تحولها إلى لاعب رئيس عسكرياً وسياسياً في منطقة الشرق الأوسط ، رغم أن هذا التحول فرض عليها تحديات وتهديدات أمنية جسيمة ، كان آخرها الهجوم الإرهابي الذي تعرض له أحد الملاهي الليلية بمنطقة أورتاكوي بإسطنبول ليلة رأس السنة وأسفر عن مقتل وإصابة العشرات   

النظام العربي والخروج من بوابة التاريخ 

في العشرين من ديسمبر الماضي جلس وزراء خارجية كل من تركيا وروسيا وإيران على منصة واحدة في العاصمة الروسية لإعلان ما عرف ” إعلان موسكو ” ثم كان الاتفاق التركي – الروسي بعده بأيام قليلة ، المشهدان حملا دلالات لا تخطئها العين ، فترتيبات الوضع السوري يغيب عنها النظام العربي والسوري غياباً تاماً ، ورغم غياب فصائل المعرضة عن إعلان موسكو إلا أنها حضرت لاحقاً في الاتفاقية التركية الروسية .
ورغم الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو – قبل ظهور الاتفاقية إلى العلن – إلى العاصمة القطرية لإعلام المسؤولين فيها بمستجدات الوضع ، واجتماعه مع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب ، ورغم الإعلان التركي عن ضم كل من السعودية وقطر إلى المفاوضات لاحقاً ، إلا أن كل ذلك لم يغير من الحقيقة أن النظام العربي الرسمي انتهى ولم يعد باقياً منه إلا مبنى مطل على نهر النيل وسط القاهرة ، شاهد على سجل حافل من النكبات والهزائم .
فاستبعاد النظام العربي من المشهد لم يكن ” منشئاً ” بقدر ما كان ” كاشفاً ” للتصدعات الهائلة التي أصابت بنية هذا النظام والتي صاحبت مولده مروراً بمشوار كبير من الفشل عبر محطات تاريخية ( ليس هنا مجال تفصيلها ) وصولاً إلى المشهد الراهن .
والحاصل أن تسويات الوضع السوري ستلقي بظلالها على ما تبقى من النظام العربي فسوريا ذاتها ستتحول إلى مناطق نفوذ روسية – إيرانية – تركية ، ولعبة الانقسامات والتشظي ستنال مناطق عدة في العالم العربي على وقع الخلافات الإثنية والمذهبية والدينية ، ما يعني مزيداً من الفوضى وانحسار معدلات النمو وارتفاع معدلات الهجرة والبحث عن أوطان بديلة ، وتراجع القضية الفلسطينية أكثر فأكثر حيث يتم اختزال القضية شيئاً فشيئاً في ملف المصالحة بين فتح وحماس على حساب قضايا الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين .. إلخ .
كما بات مستقبل بشار الأسد على المحك في ظل غيابه التام عن مفاوضات التسوية ، وسط أنباء عن انتهاء دوره ( بصورة شخصية ) في سوريا ، وأن بقاءه ليس إلا مسألة وقت . 
لكن وبالرغم مما تحقق ، فإن نجاح الاتفاق التركي – الروسي ليس أمراً سهلاً ميسوراً فتبعاً للرئيس السابق للمجلس الوطني السوري المعارض برهان غليون : 
” لا ينبغي لهذا النجاح أن يخدعنا أو يوهمنا بأن الحل أصبح قاب قوسين أو أدنى. فلا تزال هناك ألغام كثيرة مزروعة على طريق وقف شامل لإطلاق النار، ولا يزال لدى أنصار الحرب ومشعليها، في طهران ودمشق وغيرهما، وسائل كثيرة لتقويض هذا الاتفاق، ووضع العقبات أمام تطبيقه. ولا تزال هناك عقبات كثيرة تقف أيضا أمام اتفاق سياسي حتى بين الأطراف الإقليمية والدولية”.

 
______________________

 

 * كاتب مصري مقيم في اسطنبول

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان