محمد منير يكتب: هل يختلط الاستبداد بالعدل؟!

وللأسف فإن من الأمراض التى أورثتها فلسفة الحكم المطلق والمستبد العادل لبعض الشعوب، هو عدم قدرتها على تحمل واستيعاب الحكم الديمقراطى. يتبع
محمد منير*
![]() |
سألتنى صديقتى على “فيسبوك”: “عايزين إيه مننا بعد كل اللى بنعانيه ده؟” .. سؤال بسيط ومنطقى، ولكنى عندما بدأت كتابة الإجابة عن سؤالها داهمتنى عدة إشكاليات جعلتنى أتوقف ولم أُجبها حتى الآن.. نحن نعانى اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا من الحكم المستبد والحاكم المستبد، لكن الغريب أن الاستبداد والمستبد وجيوشه لهم قاعدة جماهيرية ليست قليلة يستندون عليها، فهل نحن شعب شاذ وجدانيا، أم أن هناك منطقا يحكم هذه الظاهرة الغريبة؟!
اختلاط المفاهيم وتداخلها مع واقع مرير دائماً ما يؤدى إلى نظريات مشوهة ومغلوطة عن عمد أو غير عمد.
نعانى من سلطة مطلقة مستبدة وفاشلة حتى على المستوى الاقتصادى وعاجزة حتى عن توفير أقل حد من حدود المعيشة الكريمة للشعب، والمنطق السليم يؤكد أن هذا الوضع لابد أن يؤدى إلى عزوف جماهيرى عن الالتفاف حول هذه السلطة ورفضها، إلا أن الوقع المثير للدهشة يشير إلى أن هناك قاعدة جماهيرية ليست قليلة لهذا النظام المستبد، والغريب أنهم ليسوا من المستفيدين بشكل مباشر أو غير مباشر من حكمه، بل على عكس هم من أكثر الفئات التى تعانى من الاستبداد بشكل مباشر، ورغم ذلك يقفون مدافعين بقوة عن هذا النظام، وهو ما يفسره البعض بأنه سلوك لا منطقى يرجع إلى إصابة هذه الفئة بمرض العبودية الذى يجعلهم يستمتعون بشكل شاذ بعذاب المستبد.
الأمر ليس بهذه البساطة، والحقيقة أن المؤيدين للاستبداد غير مصابين بمرض العبودية أو غيرها من الأمراض، بقدر ما أن فكرة الاستبداد ذاتها لها جذور فلسفية عميقة فى الفكر الإنسانى تؤسس لها وتبررها.
أستاذى الدكتور إمام عبد الفتاح إمام أستاذ الفلسفة، والذى شرفت بدراسة أحد مناهجه، دون أن أراه، تعرض لهذه الظاهرة فى كتابه “الطاغية – دراسة فلسفية فى أصول الاستبداد السياسى”.
الطاغية ذئب مفترس
الطاغية أو المستبد يا سادة وصفه أفلاطون بأنه ذئب مفترس يلتهم لحوم البشر، ويرى فيه أرسطو أسوأ أنواع الحكام وأشدهم خطورة، لأنه يدمر روح الإنسان.. ورغم ذلك وتحت ضغط الخوف من الاختلالات الأمنية والاضطرابات وعدم الاستقرار، وعدم توافر الأمان تبنى عددٌ من المفكرين مفهوم السلطة المطلقة، وهى الفكرة التى روج لها عملاء الدولة عميقة الفساد طوال الوقت بعد ثورة 25 يناير 2011 ورتبوا وافتعلوا الأحداث والحوادث لخدمتها.
ما علينا.. المهم أن المفكرين والفلاسفة فى العصور الوسطى والحديثة، والذين تبنوا هذا المفهوم كانوا واقعين تحت تأثير الفترات التى عاش معظمهم فيها، وهى فترات سادت فيها الاضطرابات والفوضى ما جعلهم يميلون لفكرة أن أى حكومة تحتاج لسيادة مطلقة دون مُساءلة، وأن الاستقرار السياسى والاجتماعى يقتضى وجود سلطة سياسية عليا غير محدودة الصلاحيات، ومنهم الفيلسوف الفرنسى “جان بودان” الذى ظهر فى القرن السادس عشر، والذى يُعد من أكثر الداعين لفكرة سيادة الدولة المطلقة.
وتتطور الفكرة من فكرة السيادة المطلقة إلى الحكم الأوتوقراطى والحاكم الفرد مطلق الصلاحيات، حتى لو فى ظل وجود قانون أو دستور يحد من سلطة الحاكم الذى غالبا ما تتجاوز سلطته المطلقة قوة القوانين وسلطة الدستور حتى أنه يطيح بهما لو احتاج الأمر.
المستبد العادل
وتتطور فكرة أو فلسفة السيادة المطلقة والحكم الأوتوقراطى لتفرز مصطلحًا جديدًا فى الغرب، يضرب التعاليم الديمقراطية التقليدية فى الفلسفة اليونانية وفلسفات الغرب، وهو مصطلح “المستبد العادل”، والحقيقة أن هذا المصطلح نشأ فى الأساس فى أوربا، وكما يوضح الدكتور إمام عبد الفتاح نتيجة التقاء مفاهيم الملكية المطلقة ومفاهيم عصر التنوير، إلا أن هذا المصطلح انتقل إلى الشرق ليصبح مبررًا للحكم المطلق فى العصر الحديث، فرغم النهضة التى عرفتها مصر فى عهد محمد على، إلا أن مفاهيم الحكم المطلق والحاكم العادل المستبد ظلت هى السائدة طوال الوقت. ويرد جمال الدين الأفغانى فى “العروة الوثقى” على الذين يقولون “إنه متى عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة”، قائلا: “وما أبعد ما يظنون فإن هذا العمل العظيم.. إنما يقوم به سلطان قوى قاهر.. يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا.. حتى تذوق لذته وتجنى ثمرته”!!!
والحقيقة أن الارتباط بين بعض الحكام المستبدين والنجاح فى النهوض بأممهم غالبا ما يستغل كدعاية لمفهوم المستبد العادل، وعلى سبيل المثال جوزيف ستالين الذى استطاع توحيد الاتحاد السوفيتى والقضاء على المخاطر التى كانت محيطة به من كل الجوانب نتيجة الفوضى بعد الثورة البلشفية، واستطاع النهوض بالاتحاد السوفيتى عقب الحرب العالمية الثانية، ليصبح أقوى دولة عسكريا واقتصاديا فى الشرق، واستخدم فى ذلك أسلوب الحكم الديكتاتورى بالحديد والنار، وكذلك أحب أن أضرب مثلا بحكم جمال عبد الناصر فى مصر، والذى استطاع تحقيق نهضة تنموية فى الستينيات، وفى نفس الوقت هبط بمفهوم الحريات السياسية والشخصية وحكم البلاد أيضا بالحديد والنار.
تدمير الأوطان
ورغم أن النموذجين حققا تنمية اقتصادية إلا أنهما حملا داخلهما عوامل فنائهما، بل تدمير الوطن ذاته، وهذا ما حدث عندما انهار الاتحاد السوفيتى بعد البيريسترويكا، وانهارت تجربة الاشتراكية فى مصر بعد موت عبد الناصر.. والشاهد أن تنمية الفرد والحكم الديمقراطى هما أكبر ضامن لبقاء الأمم حتى لو حققا نتائج بطيئة.
الشاهد أيضا أن الحاكم المستبد يحرص على البقاء على الأزمات التى تبرر استمرار الطغيان، خاصة لو كان فاشلًا على المستوى الاقتصادى والتنموى، وأحيانًا يختلق هذه الأزمات حتى ولو بحوادث القتل والحرق والإرهاب وتصدير الأزمات المتنوعة المختلفة، وهو ما يصعد على السطح بمفهوم الاحتياج للحاكم المطلق أو ما يتصوره البعض المستبد العادل.
وللأسف فإن من الأمراض التى أورثتها فلسفة الحكم المطلق والمستبد العادل لبعض الشعوب، هو عدم قدرتها على تحمل واستيعاب الحكم الديمقراطى، والذى غالبًا ما يطيحون به لحساب حكم ديكتاتورى باطش وحاكم مستبد حتى لو كان حكمًا عسكريًا، وحتى فى حال زيادة الأزمات الاقتصادية وانفجار هذه الشعوب فى ثورات على المستبد الفاشل، فهم يطيحون بطاغية ليرتموا تحت عرش طاغية آخر.. هى حالة تحتاج لوعى وعلاج سياسى طويل المدى.
___________________
* كاتب وصحفي مصري
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه