نصر الدين قاسم يكتب: الجزائر.. أحداث “بجاية” وسر الحكاية

ويكاد يجمع الرأي العام على رفض ما يسمى “ثورات الربيع العربي”؛ ذلك لأن هذا الذي يسمى ربيعا عربيا أصبح يعني لدى الجزائريين تخريب الأوطان، وتدمير البلدان، واقتتال الاخوة. يتبع

نصرالدين قاسم*

شهدت مدينة بجاية (180 كيلومترا شرق العاصمة الجزائر) وبعض المدن المحاذية موجة من الإضرابات والاحتجاجات  ضد ترتيبات قانون المالية لعام 2017، صاحبتها وغطت عليها أعمال نهب وسرقة وتخريب للممتلكات العامة والخاصة، وجلبت لها – أي للاحتجاجات والإضرابات – الرفض والإدانة والاستنكار.

دعوة التجار إلى الاضراب العام كانت مجهولة المصدر تداولها البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذا كانت الاستجابة لها محدودة في المكان والزمان، فاقتصرت على بعض ولايات الوسط أو أجزاء منها، أبرزها ولاية بجاية. انحسار الاستجابة في هذه الرقعة الجغرافية ولدى العديد من الملاحظين حالة من التوجس، دفعهم إلى الحديث عن مخطط مدروس لضرب الاستقرار، وزعزعة الأمن العام، وترويع الآمنين، وتمرير “سيناريوهات” لم يسلم أي طرف من تهمة التورط فيها.

الغليان يولد الانفجار
لقد أشير بالبنان لكل من بإمكانه أن يستفيد من تأزيم الوضع من مختلف أطراف الصراع السياسي في الجزائر، من دوائر في السلطة إلى مافيا المال والأعمال، مرورا بما يسميه الإعلام في الجزائر بـ “الأيادي الأجنبية والحاقدين على البلاد”، سواء لتكريس الأمر الواقع وإبعاد إمكانات التغيير، والتداول السلمي على السلطة، أو لإحداث التغيير المأمول عن طريق الشارع، أو لمجرد تأزيم الوضع أكثر لمزيد من الاختلاس والنهب للمال العام
ومهما قيل عن أعمال الشغب والتخريب والنهب والسرقة هذه، فإن الثابت في الموضوع أن في الجزائر من الاحتقان والغليان والغضب من السلطة ما يدفع الناس إلى التظاهر والاحتجاج ، إذ تكفي شرارة بسيطة ليشعل فتيل الغضب، ويحدث الانفجار.. ومن البديهيات أنه عندما يندلع الاحتجاج  وتعم الفوضى، يختلط الحابل بالنابل، ويسهل “التحريك والاستغلال والتوظيف، فكل يجد ضالته لتحقيق مآربه: اللص، والخائن والمغامر والمتربص والمنتقم والراغب في تأزم الوضع وحتى “نكتة” الأيادي الأجنبية.

تثمين الفشل وتزكية الفاشلين!
صحيح أن الزيادات لم تكن مباشرة، ولم تكن  كبيرة إلى درجة التأثير على مستوى المعيشة أو القدرة الشرائية للمواطنين، بل إنها لم تمس المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، لكنها فجرت حنق الجزائريين وغضبهم من السلطات. ويتساءل الجميع، كيف لمسؤولين حكموا البلاد أكثر من خمسة عشر عاما في “أجواء” بحبوحة مالية غير مسبوقة كانت ترشح الجزائر للحاق بركب الأمم المتحضرة المنتجة للخيرات المادية، ومع ذلك لم يحققوا شيئا يثبت جدارتهم بالمسؤولية وأهليتهم لها، فضاعت مليارات الدولارات: أكثر من ثمانمئة مليار دولار لم ير الجزائريون من إنجازاتها ما يبرر إنفاق كل هذا المبلغ المهول (طريق سيار قدرت تكاليفه بسبعة مليارات دولار ومشاريع سكنية، وبعض المنشآت التربوية والاجتماعية).

ولم يتقبل الجزائريون بقاء هؤلاء المسؤولين الفاشلين أنفسهم، جاثمين على صدور الوطن متشبثين بالسلطة، يسيرون شؤون البلاد ويتحكمون في رقاب العباد بعد أن شحت الموارد واشتدت الضائقة المالية جراء انهيار أسعار النفط، ويتقعرون على الشعب ويلقون عليه بالمسؤولية ليدفع وحده ثمن هذا الفشل الذريع، الذي لم يشارك فيه ولم يُستشر قبله ولا بعده.. فلا يعقل أن ينجح الفاشلون زمن الوفرة المالية الكبيرة، في إحداث التنمية في زمن شح الموارد المالية وندرتها.. ولهذا يثور الجزائريون رغم حساسيتهم المفرطة مما يسمى “الثورة الديمقراطية” لأن جراح عشرية الدماء والدموع والدمار لم تندمل بعد، وأحزانها لا تزال تصنع يوميات الجزائريين، لما فقدوه من أعزة قتلوا، وأبناء اختفوا، وعائلات شُردت، وبنايات هُدِّمت، ومرافق خُربت، وحقول حُرقت، واقتصاديات دُمرت.

الحكمة.. والشطط
ويكاد يجمع الرأي العام على رفض ما يسمى “ثورات الربيع العربي”.. ذلك لأن هذا الذي يسمى ربيعا عربيا أصبح يعني لدى الجزائريين تخريب الأوطان، وتدمير البلدان، واقتتال الاخوة، وذهاب ريح العرب والمسلمين.. إنهم يتوجسون خيفة من انزلاق الأوضاع، حذرين أن يحل بهم ما حل بمصر والمصريين وسوريا والسوريين واليمن واليمنيين وليبيا والليبيين، من أهوال ومآس، حتى أنهم يتفقون على تسمية ثورات الربيع العربي بثورات “الربيع العبري”.

هذا الحرص الشعبي الحكيم على عدم المغامرة بمستقبل البلاد، والحس المدني الرفيع في تفادي ما يمكن أن يتحول إلى وبال على الجميع، أسعد السلطة وأقنعها بفكرة المضي قدما في غيها، باستعمال هذا الحرص ورقة تستثمرها سياسيا وتختفي وراءها لتواري سوءاتها وتستعملها عاملا إضافيا للاحتفاظ بالسلطة والخلود فيها، ومبررا لرفض التغيير والتداول على السلطة.

الاحتجاج  حق… والتخريب ذريعة!؟
وبدل أن تقرأ الرسالة قراءة سليمة في مستوى حكمة وتعقل الرأي العام الوطني، تتخذها مطية، لتوغل في الاستفزاز وحدة التصعيد، وإحكام التضييق السياسي والإقصاء ، والغلق الإعلامي وخنق الحريات وتكميم الأفواه ومصادرة الرأي الآخر.. وسن قوانين وتشريعات غير ديمقراطية (قانون الانتخابات، قانون واجب التحفظ للمستخدمين العسكريين وضباط الاحتياط، وقانون التقاعد، وقانون سلطة الضبط السمعي البصري..)  واستعمال العدالة لتكريس هذا الواقع وأداة لقمع الأصوات المناهضة، وترهيب الخصوم السياسيين، وفرض طبائع الاستبداد.. وتبقى وحدها في المشهد تفعل الحدث وتحدث الفعل ورد الفعل، وتصنع ربيع الجزائر وجوها الماطر
فكما أن الاضراب والاحتجاج  حق دستوري، ويجب ألا يتخذ ذريعة للسرقة والنهب والتخريب والحرق والاعتداء على الممتلكات والأشخاص. كذلك يجب ألا تتخذ أعمال النهب والتخريب ذريعة لقمع الحريات وانتهاك حق الجزائريين الدستوري في الاحتجاج  ورفض السياسات والخيارات الفاشلة، ومصادرة إرادتهم وحريتهم في اختيار من يحكمهم.. لأن احترام هذه المعادلة وتقديس فحواها هو الطريق الآمن نحو الحل السياسي السلمي الذي يتطلع إليه الجزائريون، وطوق النجاة الذي يمكن الشعب من اختيار من يمثله ومن يحكمه بحرية ونزاهة وشفافية

___________________

* كاتب وصحفي جزائري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان