نور الدين عبد الكريم يكتب: تغير الأحكام في الإسلام

وكما تعودنا في كل عام، لا تمر أي من هذه المناسبات دون أن تعج مجالسنا في كل من العالم الواقعي والافتراضي على السواء؛ بحلقات مطولة من الجدل والنقاش والاختلاف في حكم الاحتفال بيوم المولد، أو حكم تهنئة غير المسلمين بمناسباتهم. يتبع

د. نور الدين عبد الكريم*

ينظر العرب إلى مقولة “اتفق العرب على أن لا يتفقوا”، نظرة سلبية، فالدارج عندنا أنها تعني أن الاتفاق والانسجام بين العرب أمر مستحيل.

إلا أن النسخة الإنجليزية من هذه المقولة تأتي بمعنى: “الاتفاق على الاختلاف”، وهي تحمل معنى إيجابي، يوحي أنه على الجميع الاعتراف بأن الاختلاف أمر ضروري شريطة أن نتفق على احترام هذا الاختلاف، وأن نتقبل تباين الآراء فيما بيننا.

تخطر ببالي هذه المقولة كلما مررنا بعادة اجتماعية ذات طابع ديني، من النوع الذي يدور حولها كثير من الجدل واختلاف الآراء بين تحريم وتحليل، فقد مرت منذ عدة أيام مناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي، ومر بنا كذلك قبل أيام قليلة مناسبة احتفال المسيحيين بعيد الميلاد “الكريسماس”، وسيمر بنا بعد أيام احتفال الصينيين برأس سنتهم الجديدة، وكذلك الهنود بعيدهم الديني. وكما تعودنا في كل عام، لا تمر أي من هذه المناسبات دون أن تعج مجالسنا في كل من العالم الواقعي والافتراضي على السواء؛ بحلقات مطولة من الجدل والنقاش والاختلاف في حكم الاحتفال بيوم المولد، أو حكم تهنئة غير المسلمين بمناسباتهم، وهو ما يثبت أن فهم مقولة “الاتفاق على الاختلاف”، بمعناها الإيجابي لا يزال صعب المنال، فهذا النقاش والجدل يتسم عادة بالمشاحنة والمعاداة، وذلك بسبب الإصرار على تخطئة المخالفين، وعدم تقبل أي اجتهاد في هذه المسألة بشكل يجعل اختلاف الآراء فيها أمراً طبيعياً.  
 

ثلاثة أرباع الدين ظني
الكلام حول هذه المسائل يقودنا إلى الحديث عن أقسام الأحكام الشرعية، وعن قاعدة “تغير الأحكام بتغير موجباتها” الفقهية التي قال بها الفقهاء.

فالأحكام الشرعية من ناحية المصدر قسمان: أحكام مصدرها الأدلة من الكتاب والسنة مباشرة، وأحكام لم تنص عليها الأدلة مباشرة، وإنما تم استنباطها بالاجتهاد في فهم العرف والعادات وتطبيق ذلك بما يتوافق مع مقاصد الشريعة.

وبالنظر إلى الأحكام التي نصت عليها الأدلة، نجد أن ثلاثة أرباع هذه الأحكام ظنية. بيان ذلك؛ أن أي دليل سيكون على أحد أربع أشكال: فهو إما قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أو قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو ظني الثبوت قطعي الدلالة، أو ظني الثبوت ظني الدلالة.

وهذا يعني أنه في حالة واحدة من أربع حالات يكون فيها الحكم ثابتاً بشكل قطعي استدلالاً واستنباطاً، ولا يقبل بذلك أي تأويل أو اختلاف، وذلك مثل قوله تعالى: “وأقيموا الصلاة”، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت كله، ودلالته في هذه الآية قطعية على وجوب إقامة الصلاة، فبالتالي لا يمكن استيعاب رأي يقول بعدم وجوب إقامة الصلاة على المسلم.

أما في باقي الحالات فيتوفر في الدليل عنصر الظنية، وذلك مما يجيز تعدد الآراء في المسألة الواحدة. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء”، فهذا الدليل قطعي الثبوت، لكن المقصود بالقروء ظني، لذلك اختلف العلماء في تفسير هذه المدة على عدة آراء.

وفيما يخص السنة النبوية، فليست كل الأحاديث والآثار قطعية الثبوت، وكذلك ليست كلها قطعية الدلالة، لذلك تختلف الاجتهادات والاستنتاجات بالترجيح بين هذه الأحاديث من ناحية قوتها ودلالتها على الحكم. وهذا ما يجعلنا نقول: إن ثلاثة أرباع أحكام ديننا قابلة للاجتهاد، ويقبل فيها أكثر من رأي، وما هذا إلا ميزة خص الله بها الإسلام، وجعله بحيوتيه هذه صالح لكل زمان ومكان.

أسباب تغير الحكم
ومن هنا ظهرت القاعدة الفقهية التي نصها: “تتغير الأحكام بتغير موجباتها”، والتي تعني أنه من الوارد أن تتغير الفتوى في مسألة ما، إن تغيرت أسبابها وظروفها.
وهذا بطبيعة الحال، لا يشمل الأحكام الثابتة بأدلة قطعية لا تقبل التغيير، كما ذكر آنفا، وإنما تشمل الأحكام التي يصح أن يرد فيها الاجتهاد وتعدد الآراء، بالإضافة إلى الأحكام المرتبطة بالعرف والعادة المجتمعية. ولذلك قال الفقهاء إن الأسباب التي تؤدي إلى تغير هذه الأحكام هي: الرخص، وتغير الزمان، وتغير المكان، وتغير العادات، وتغير الأحوال.

هذه الأسباب هي التي تجعلنا نرى أكثر من رأي في مسألة واحدة في داخل المذهب نفسه، بل قد يرد أحياناً، أكثر من رأي في المسألة الواحدة للشيخ الواحد. ومن أشهر الأمثلة على ذلك وجود مذهب قديم ومذهب جديد للإمام الشافعي رحمه الله، فمن المعروف أنه عندما انتقل إلى مصر، ألّف كتباً جديدة اعتبرها أتباع مذهبه تغييراً لما كان يقول به في العراق.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً اجتهادات عمر بن الخطاب في بعض المسائل، مثل إيقافه سهم “المؤلفة قلوبهم” من بين بقية أسهم الزكاة عندما رأى أن الظروف قد تغيرت ولم يعد ثمة داع لهذا السهم في تلك الفترة، وكذلك اجتهاده رضي الله عنه في رفع حد السرقة عام المجاعة بسبب تفاقم الأزمة وقتها، وكذلك استنكاره ومنعه الزواج بالكتابيات عندما شعر أن ذلك سيكون على حساب الزواج بالمسلمات.

وعلى الرغم من تعدد الأمثلة على اختلاف الاجتهادات لتغير الظروف والزمان والمكان، إلا أن هناك من يرى أن هذه القاعدة الفقهية لا تنطبق على القسم الأول من الأحكام، أي التي ثبتت بالنصوص الشرعية، وإنما تشمل الأحكام من القسم الثاني فقط، أي التي ثبتت حسب العرف والعادات، فيرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لم يقل بآرائه تلك بناءً على تغير الزمان والمكان والظرف، وإنما بسبب تغليب دليل على آخر.

وكذلك يقولون:  إن الإمام الشافعي قام بتغيير مذهبه لاطلاعه على أدلة وآراء لم يكن قد اطلع عليها أثناء إقامته في العراق، فبالتالي لم يكن عاملُ تغير الظرف والزمان والمكان هو من أظهر مذهب الشافعي الجديد، بل الأدلة الجديدة.
وبعيداً عن صحة هذا الرأي أو خطئه، ما يهمنا هنا هو أن تغير الأحكام وتعدد الآراء في المسألة الواحدة أمر وارد، وسببه إما أن ثلاثة أرباع ديننا ظني، أو تغير ظروف وزمان ومكان الحكم، ولذك فإن الترجيح بين هذه الآراء لا يجب أن يغفل عن فقه الواقع، والظرف الاجتماعي، والعادات التي تناسب رأياً دون آخر، سواء كان هذا الحكم ثابت بأدلة مباشرة، أو مرجعه إلى العرف والعادة. 
عادات لا عبادات
ولو عدنا إلى الأمثلة المذكورة آنفاً، نجد أن أصل الخلاف فيها عائد إلى تكييف هذه الأفعال، وفهم طبيعتها ونية القائمين بها، وهل وازعهم تعبدي أم هي العادة والعرف؟ فالعبادات أمرها توقيفي، ولا تثبت إلا بالدليل.

فهذه الأفعال فهي تأتي ضمن القسم الثاني من الأحكام التي لا تثبت بالدليل المباشر، فالاحتفال بمولد الرسول الكريم لا يقوم مقام الفروض والطاعات التي أمر بها الدين، وذكر ثوابها وأجر القيام بها، كصلاة الجمعة أو صلاة العيد، أو صلاة الجماعة، أو صيام رمضان، وإنما هو عادة أصبحت دارجة لدى الكثير من المجتمعات المسلمة. وكذلك تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، هو أمر يتم ضمن العادات المجتمعية التي تفرضها التعددية الدينية والعرقية في الكثير من الدول، ولا يتوقع أن تقترن هذه التهنئة بالإقرار والإيمان بالمعتقد لدى أصحاب هذه الديانات.
وبذلك نقول إن الحكم على هذه الأفعال من الطبيعي أن يختلف باختلاف المجتمع وعاداته، وطبيعته وتركيبته، فالمجتمع التعددي يلزمه حكم يختلف عن المجتمع غير التعددي، وزمننا المعاصر يناسبه حكم يختلف عن الأحكام المنقولة عن قرون وأجيال سابقة.
لذلك من الأجدر بأهل العلم وضع حدود فتاواهم حسب مجتمعاتهم، فالتعميم في هذا النوع من الأحكام لن يتناسب مع اختلاف المجتمعات وتعدداتها.
ثم بعد ذلك، وفي المرحلة التالية، ينبغي على العلماء تصحيح مفاهيم الناس حول هذه الأفعال، وبيان ضوابطها، وما يصح فيها من ممارسات وما لا يصح، بدلاً من اتباع سياسة “البتر” التي لا تضع اعتباراً لتبدل الظروف وتغير العادات وتطورها مع مرور السنين والأيام.

____________________

*كاتب أردني، باحث في الجامعة الإسلامية في ماليزيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان