” من انتم ؟ ” ما بين الحكم العسكرى والحكم المدنى

من أنتم؟ أو أنت مين؟  هو سؤال استنكارى عالمي يحمل معنى الاستعلاء على من تجاوز حدوده مع شخص فى أى مجال، والتعبير موجود أيضا بالانجليزية بنفس المعنىWho are you?! ))  إلا أن معناها السياقى كيف تجرؤ؟How dare you? )).

ويستعمل هذا المصطلح الاستنكاري، العامة والحكام فى وقت واحد مع اختلاف المحتوى، فمثلا عندما سأل الشاعر كامل الشناوي من خلال كلماته التى تغنت بها ليلى مراد “انت مين انت، انت مين قولى؟” كان لا يقصد الاستعلاء الرئاسي المعرفي، بل كان يقصد أن قائل الكلمات كان سباقًا فى العشق والهوى ممن يحدثه، لهذا يكمل السؤال قائلا “والهوى امتى فات عليك قبلى”. أما السؤال من الحكام فله معنى ومضمون مغاير تماما، خاصة إذا كان الحاكم يحمل أصولاً عسكرية ترسخ داخله أن لا أحد ولا كائن يعرف أو يفهم أو يدرك أو يقدر مثله.

حديث الذكريات

دعونا نبحر فى بحر الذكريات، لنرى ما سوف يصادفنا من مشاهد وأحداث تؤكد هذا المعنى.

على مستوى ذكرياتي الشخصية، أتذكر فى مرحلة ما بعد حصولي على الثانوية العامة، التحقت بكلية مدنية، ولكن بعد شهر من انتظامي أخطرتني إحدى الكليات العسكرية بقبولي فى دفعة استثنائية، وكان علىَّ الاختيار مابين الانتظام فى الكلية المدنية أو الالتحاق بالكلية العسكرية، وتجهزت بجهازي، وتوجهت إلى الكلية العسكرية، لتبدأ مرحلة الاستقبال وفيها يقف ضابط برتية رائد فى مشهد فتوة يتأمل الوافدين الجدد باستعلاء واحتقار ثم يصرخ “انتم بقى طلبة الدفعة الاستثنائية اللى جت بعد زمايلهم بشهر، اسمعوا لازم تعرفوا إن زمايلكم اللى سبقوكم بشهر أرجل منكم بشهر وانضف منكم بشهر، عارفين ليه، لأنكم بتخشوا هنا نسوان نعملكم رجالة، هنا احنا بنضفكم ونخليكم أحسن من الناس اللى بره، شكلك أحسن منه .. بتفهم أكتر منه .. عشان كده يا “توتّل” (لفظ تهزيقى ميري) لما تركب أتوبيس، تركب درجة أولى مش درجة تانية لأنك ظابط  درجة أولى مش مواطن درجة تانية”.

واختتم محاضرته الاستقبالية قائلا “اللى مش شايف نفسه أرجل وأحسن وأجدع من اللى بره يخلع من دلوقتى بالسلامة”، وبمجرد انتهاء محاضرة الرجولة والنظافة الميرى، أخذت نفسى للخارج وانتظمت فى كليتى الملكية. الشاهد أن الروح العسكرية تقوم على التمييز والاصطفاء، لهذا فإن أى حاكم من أصول عسكرية لا يطيق أى شخص يناقشه، وهذا ما يفسر نفور الشخصية العسكرية من الديمقراطية.

فى عام 1976 وقف كمال أحمد نائب الإسكندرية أمام أنور السادات يحتج على سياسة الانفتاح الاقتصادى، وآثارها السلبية على الحياة المعيشية للمواطن المصرى، ورفع “بيضة” فى وجهة السادات، وقال له “البيضة بقت بقرشين صاغ والناس بطلت تاكل بيض”.. فكان رد السادات “عيب ياكمال انت فى حضرة رئيس الجمهورية، وبعدين انت مش بتاكل بيض”.

اعتبر السادات ذو الخلفية العسكرية أن مجرد مناقشته من النائب “راس براس” هو إهانة لذاته، فهو يرى أنه أفضل من الآخرين، حتى من النواب المنوط بهم مناقشتهم، كما كان السادات لا يدرك أن النائب مهمته التعبير عن ظروف الشعب وحاله، وليس التعبير عن الحال الشخصي للنائب، وهذا ما يفسر كلمته “انت مش بتاكل بيض”!!!

بعد هذه الواقعة بشهور قليلة، وتحديدًا فى يناير 1977، حدثت انتقاضة شعبية احتجاجا على رفع الأسعار، وأراد السادات أن يستوعبها بتوسيع المظهر الديمقراطى، فاجتمع مع الرموز الطلابية اجتماعا علنيا فى مشهد تمثيلى أذاعته محطات التلفزيون، ولكنه لم يستطع استكمال المشهد، وثار على عبدالمنعم أبوالفتوح، رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة آنذاك عندما ناقشه بصراحة وصرخ فيه “اوقف عندك علمتكم الصراحة وليس الوقاحة”.. وانتهت حياة السادات بالاغتيال.

سيبوهم يتسلوا

عندما وصلت التقارير الأمنية لحسنى مبارك عن تنظيم حركة احتجاج واسعة فى يناير 2011 قال عبارته المشهورة “سيبوهم يتسلوا”، لم تتصور شخصية مبارك العسكرية، وذاته الميري، أن هناك إرادة شعبية يمكن أن تقف أمام إراداته وحكمته، وانتهى حكم مبارك بالخلع من الحكم.

وقف الحاكم ذو الأصول العسكرية معمر القذافى فى وجه شعبه الثائر يصرخ فى انفعال استنكارى “من أنتم”،  مندهشًا من جرأة الشعب على مناقشته، متعاليا على قدرات الشعب وإرادته.. ومات القذافى دهساً بنعال الشعب الليبى.

نفس المنطق الذي واجه به عبد الفتاح السيسى، الحاكم العسكري لمصر، نائب محافظة دمياط، عندما وقف يشكو له حال الشعب الفقير، ويطالب بتأجيل قرارات رفع الأسعار وزيادة الحد الأدنى للأجور، ففزع السيسى فى وجهه، وسأله السؤال المتعالى الاستنكارى التقليدى “انت مين؟ .. وقال له  “روح ادرس الأول”. لم يتصور “السيسى” أن هناك من يجرؤ على مناقشته فيما يفعله فى أبناء الوطن من انتهاكات وظلم واستغلال، حتى لو كان نائبا فى البرلمان وظيفته الأساسية التعبير عن هموم بسطاء الشعب الذين انتخبوه للتعبير عنهم وعن مشاكلهم، ومازال السيسى يحكم ومصيره فى علم الغيب ومشيئة الأقدار.

الحقيقة إن السؤال الاستنكارى “من أنتم” لا يحمل محتوى واحدًا لدى الحكام، فيختلف محتواه عند الحكام العسكريين عن محتواه عند الحكام المدنيين مثل الطيب أردغاون حاكم تركيا الذى هاجم منظمة الأمن والتعاون في أوربا التي انتقدت الجو السياسي في تركيا عشية الاستفتاء على التعديل الدستوري قائلا لهم “من أنتم؟ عليكم قبل كل شيء أن تعرفوا حدودكم، وهذا الأمر لا يعنيكم”، وهنا السؤال الاستنكاري لا يحمل تعاليا بقدر ما يحمل نزوعا نحو الاستقلال الوطني، ورفض أى تدخل خارجي فى شئون البلاد.

فرق كبير بين الحكم العسكري الذى يتعالى على إرادة االشعوب والحكم المدني الذى يصون عرض الوطن وكرامة الشعوب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه