ولنحتكم للشعب فيما اختلفنا فيه

إن القراءة المتشنجة لوثيقة الجبهة والانطباعات الخاطئة المسبقة عنها وعن بعض شخوصها هو الذي يقود إلى هذه التقييمات الشائهة، التي تبقي على حالة التشرذم والنزاع.

في نهاية الثلاثينات من القرن المنصرم وضع الشيخ محمد رشيد رضا قاعدة في التعامل، وصفت بـ ” قاعدة المنار الذهبية” وهي “نتعاون فيما اتفقنا  فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه” مجلة المنار المجلد 35 – الجزء 6، العدد ( رجب – 1358هـ / أغسطس/آب – 1939م )، لكن هذه القاعدة انتشرت بشكل واسع على لسان الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، وأصبحت تنسب إليه عند الكثيرين في ربوع العالم الإسلامي.

هذه القاعدة كفيلة بفض الاشتباك بين مؤيدي ورافضي العمل المشترك ( الاصطفاف) لمواجهة سلطة انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، إذ يصر البعض على فرض وجهة نظره كاملة، واعتبارها مقياسا لقبول التعاون أو الافتراق، بل إن بعضهم يعمد لطرح الأسئلة الخلافية أولا لتحديد الموقف منها، ومن ثم تحديد الموقف لاستكمال الحوار، وفي الأغلب لا يكتمل الحوار لأن الخلاف لا يزال قائما، وبالتالي تستمر حالة التشرذم السياسي، والتباعد بين فرقاء جمعهم الميدان يوما، ثم فرقتهم السياسة لاحقا، ثم هاهم اليوم يعانون مصيرا واحدا من البؤس والشقاء والانتهاكات تحت نظام السيسي الذي يتغذى على هذه الخلافات بل ويزكيها لينعم بالاستقرار والاستمرار.

لا يمكن التجاهل

لا يمكن لعاقل أن يتجاهل الشروخ النفسية التي سببتها مواقف بعض الفئات والقوى التي شاركت بوعي أو بدون وعي في وأد التجربة الديمقراطية، والانقلاب على أول رئيس مدني لمصر، واستدعاء الجنرالات لحكم مصر، والذين نجحوا في تقسيم الشعب (انتو شعب واحنا شعب) ونشروا الفتن بين المرء وزوجه، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، ونفذوا بدعم من تلك القوى السياسية أضخم مجازر شهدتها مصر في تاريخها( رابعة والنهضة والحرس والمنصة .. إلخ)، ولا يمكن لعاقل أن يلتمس العذر لأولئك الذين رقصوا على أشلاء الضحايا، ولا يزالون في غيهم سادرون، ولكن في المقابل لا يمكن لعاقل أن يظل معاديا لنصف الشعب المصري لمجرد أنه صمت على القتل أو أبدى قبولا بحكم العسكر، أو انخدع لدسائس الأذرع الإعلامية ومعسول كلامها حينا من الدهر، ثم اكتشف الخديعة لاحقا، ولا يمكن أيضا أن يعتبر البعض نفسه حاجبا لباب التوبة فيرفض قبول توبة من تاب وأناب، وندم على خطيئته، لمجرد التشفي فيه، وكيف لهذا الحاجب المزعوم أن يفعل ذلك مخالفا للقاعدة القرآنية “إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم..”؟!!.

لقد أصبح مستقرا في يقين الكثيرين الآن من كل الأطراف أن المعركة  ضد سلطة الانقلاب واسعة وممتدة محليا وإقليميا ودوليا، ولا يمكن لفصيل منفردا أن يحسمها مهما كانت قوته، ولذا أصبح مستقرا لدى الكثيرين أيضا أن التعاون والعمل المشترك هو الطريق الأقصر لكسب هذه المعركة ضمن مجموعة من الأسباب الأخرى في إطار حسن الإعداد الذي أمرنا به شرعا، ومن هنا بدأنا نسمع دعوات التعاون بين قوى سياسية كانت متنافرة حتى وقت قريب، وكانت تعتبر خصومتها لبعضها البعض أشد من خصومتها للسيسي ونظامه، ورغم أن هذه الأصوات لا تمثل الأغلبية في تياراتها، إلا أنها تكسب أنصارا جددا كل يوم على حساب أصحاب الأصوات المتشددة والاقصائية، وهذا ما ينبغي التعاطي إيجابا معه.

المقاومة لم تتوقف

على مدى أربع سنوات لانقلاب العسكر على التجربة الديمقراطية، لم تتوقف المقاومة في الشارع يوما حتى وإن خفتت قوتها، وانزوت في الشوارع الخلفية، كما أن محاولات العمل المشترك لم تتوقف يوما هي الأخرى، بدءا من التحالف الوطني لدعم الشرعية مرورا بوثيقة بروكسل وبيان القاهرة ، والمجلس الثوري (في طبعته الأولى) وصولا إلى مبادرات نوعية مثل ميثاق الشرف الوطني، وحملة يناير يجمعنا وانتهاء بالجبهة الوطنية المصرية التي تأسست يوم 3 يوليو الماضي في الذكرى الرابعة للإنقلاب.

القاعدة الأساسية التي بنيت عليها الجبهة الوطنية هي ذاتها القاعدة الذهبية التي أطلقها صاحب المنار” نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلقنا فيه” ولكن الجبهة أدخلت- بطريق غير مباشر-  تعديلا مهما على هذه القاعدة في العمل السياسي، وخاصة في شطرها الثاني لتصبح “نتعاون فيما اتفقنا فيه ونحتكم للشعب فيما اختلفنا فيه”، ولأن الاحتكام للشعب ليس أمرا سهلا، ولا مستساغا في كل خلاف، فقد اعتمدت وثيقة الجبهة الوطنية صيغة التوافق والحوار كطريق لحسم القضايا الخلافية، فإن عجز التوافق والحوار فبالاحتكام للشعب، ليكون الشعب هو صاحب الكلمة النهائية بعد توفير كل ضمانات النزاهة والشفافية.

لا أدري ما الذي يدفع البعض للتخوف من هذه القاعدة التي ترد الأمر للشعب عند احتدام الخلاف؟ وكيف للبعض من أنصار الشرعية أن يدعي احتراما أو دفاعا عن الإرادة الشعبية بينما هو يرفض الإحتكام إليها؟ وكيف لآخرين على الجانب الليبرالي يرفضون أيضا هذه القاعدة بينما يصدعون رؤوسنا بقيمهم الليبرالية التي يفترض أن تقوم أساسا على إحترام الإرادة الشعبية؟!

يدعي البعض أن البند الأخير من وثيقة الجبهة الوطنية والخاص بإدارة المرحلة الإنتقالية يمثل وصايةعلى الشعب، ذلك أن هذا النص هو الذي يتضمن قاعدة التوافق والحوار واللجوء للشعب عند الخلاف كآلية لحسم الخلافات الكبرى، ولا أدري من أين أتوا بهذا الفهم الذي يعاكس النص تماما، ولكن ما أستطيع استنتاجه أن هذا الفريق أغلق عقوله على صيغة بعينها يريد فرضها على الآخرين الذين لا يقبلونها، وبسبب تشبث كل فريق برؤيته وحرصه على فرضها على غيره لم يكتب النجاح لمحاولات التقارب والتعاون المشترك طيلة الفترة الماضية، والأمل معقود أن تسهم هذه الصيغة التي طرحتها الجبهة الوطنية في تقريب وجهات النظر، علما أن الجبهة لم تطلب من أي فريق التنازل عن ثوابته، بل منحت الجميع الحق في التعبير عن رؤاه الخاصة بعيدا عن المساحات المشتركة المتفق عليها.

إن القراءة المتشنجة لوثيقة الجبهة والانطباعات الخاطئة المسبقة عنها وعن بعض شخوصها هو الذي يقود إلى هذه التقييمات الشائهة، التي تبقي على حالة التشرذم والنزاع في وقت ما أحوجنا فيه إلى توحيد صفوف كل المخلصين للخلاص من هذا الحكم انقاذا للبلاد والعباد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان