عقد عمل لـ «شخص غير مرغوب فيه»

(1)

الحرية في أرض العرب «شخص غير مرغوب فيه».. الحرية في أرض العرب مشردة، مطاردة، مشبوهة، عاطلة، تحتاج إلى «عقد عمل” و«أوراق إقامة» و«جنسية».. الحرية في أرض العرب تحتاج إلى «حرية».

[وأزمعت أمراً..]

لقد قررت الاستمرار في تحرير الحرية.. لا أتحدث عن حريتي وحدي، بل حرية الوطن وحرية كل مواطن، حتى لو اضطررت للدفاع عن الوطن من خارجه وليس من داخله، لقد عشت متعلقا بقصيدة أمل دنقل «مقابلة خاصة مع ابن نوح»  ولم أتصور يوماً أن أبتعد طويلاً عن الوطن الذي تماهيت معه، حتى ذاب في تفاصيل حياتي: في ملمس الوسادة التي يرتاح عليها رأسي، وطعم قهوتي، وأماني بين الناس الطيبين، وآمالي التي لم يقدر عليها فساد ولا ظلم ولا قمع. لكنني الآن بعد تردي الأحوال إلى الدرك الأحقر، المطلوب مني أن أتحول إلى مجرد «مواطن عاجز في وطن عاجز» وأنا لا أطيق الإحساس بالعجز، ولا أتحمل كتم صراخي في وجه الظالمين المتجبرين، ولا أرضى بالاستسلام لمشيئتهم الخبيثة الماكرة، لذلك قررت مد خط المواجهة إلى أي مكان ييسر لي أن أصرخ فاضحاً فسادهم، وأواجه الذي أعادهم فسادهم حتى سادوا وعادوا شعارت ثورة العيش والحرية والكرامة الإنسانية..  

[سأرحلُ عن خطوتي.. لا أطيق

وأبحثُ لي عن طريق

وما من طريقٍ سواي]

(2)

من المفترض، إذا لم ينتبه السجّان أن يكون هذا المقال تحت عيونكم، بينما أنا في السماء على متن طائرة إلى بيروت، حيث أتوقف لترتيب أوراقي والبحث عن منصة مقاومة أفتح من خلالها نافذة للحرية الأسيرة في بلدي

[طائرةٌ.. وملاكٌ وحيدٌ على غيمةٍ ضائعة

إذن هكذا ….ُ]

قالت البنت الصغيرة: «انت ليه هتسافر بقى؟.. أنا مش عايزاك تسيبنا.. خليك معايا ياجيمي». وأجهش قلبي بالبكاء، فأسرعت بتغطية فمي بقشرة ابتسامة لم أعد واثقا أنها تخفي حزني وقلقي ولوعة المنفى التي لم أتخيلها من قبل حتى في أشد الكوابيس رعباً، وتذكرت قصيدة عبد العزيز الدريني كأنها سلوى تخفف من مأساة «الوصية الدنقلية»، وطفا في خاطري البيت الذي يقول فيه: «عجبت لمن يقيم بدار ذلٍ/ وأرض الله واسعة فضاها»

[ويقتلني الصمتُ.. ماذا أقول؟

ويقتلني القولُ.. ماذا أقول؟

عبيدٌ وقد ملكوا..!]

(3)

مشاعر كثيرة تتضارب داخل نفسي، وتوترات عنيفة لم أستطع في معظم الأوقات السيطرة على تهورها، وصيحات الحنين والذكريات تعلو فوق كل عقل لتطالبني بالبقاء، لكنني لم أستطع القبول بالهزيمة كقدر نهائي، سفالة الأوغاد المتطاولين تحرضني في المقابل على ضرورة الرد، وعلى إثبات القدرة على المواجهة.. فالمناورة  (وأحيانا الانسحاب الجزئي) من تكتيكات الحرب ومن العوامل التي قد تساعد على النصر، فنحن لسنا عبيداً نحارب والسلاسل تكبلنا في قطعة من الأرض، فلماذا لا نغير في تكنيكات وتكتيكات المواجهة؟

[عدوي يعلمني كيف أخلع نعلي وأهرب.. شكراً

عدوي يعلمني كيف أشحذ نصلي وأضرب.. شكراً جزيلا

غرامي يوغلُ في الأرض عرضاً وطولا

ويكتسح المستحيلا

غرامي يقول لي: أكتب..  وأكتب

ثم يقول لي: إقرأ.. وأقرأ

ثم يقول لي اذهب إلى ملكوتي غنياً.. قوياً.. فتياً.. جميلا

وشكراً جزيلا]

(4)

لكن إلى أين؟، ومن أجل ماذا؟

سألت نفسي، فلم أجد قطراً عربياً يليق بفتح نافذةٍ للحرية، إلا لبنان الجريح، لكن الأعباء التي قصمت ظهره وكسرت إمكانياته كساحة تعبير إعلامي وثقافي وفني، قد لا تسمح بفرصة حياة، لكنه في كل الأحوال أنسب محطة للإقامة والتفكير وترتيب المعركة المفروضة

[وأقسم أنني أقاتل

وسوف أظل أقاتل

ليولد حقٌ..

ويُزهَق باطل]

(5)

لدي عرض عمل مؤقت في لندن، لكنني لا أفكر بالقطعة، وأسعى لتفكير استراتيجي مؤثر يعفيني من الانهماك في تدبير حياتي الشخصية على حساب معركة الحرية وفريضة تأسيس «سلطة المواطن» في بلدي التي سادها فسادها، وتولى لصوصها مهمة خلاصها!، لذلك لن أراهن على جهة، ولن أبيع نفسي لدولة، ولا حزب، ولا حتى لفرصة حياة لا تتصل بحياة بلدي وناسها، ومهما كانت المصاعب (التي أتوقعها)، سأواصل معركتي مستعينا بالله وبآمال أهلي، وبضميري الوطني والإنساني..

[لا حل غيري

حملي على قدر ظهري

وظهري على قدر عمري

وعمري على قدر صبري

وصبري جميلٌ جميل

وصبري طويلٌ طويل]

(6)

قد أتعثر لكنني لن أستسلم.. قد أتأخر لكنني سأعود.. قد أخطيء لكن طريقي صحيح، وأملي نبيل، وقصدي شريف، ورهاني راجح..

[رهاني (كما قلت أمس) الجواد الأخير الذي سيفوز

انهضوا وارفضوا ميتة الذل

انهضوا.. وارفضوا]

…………………………………………………………………………………………
* المقتطفات [بين الأقواس] من قصيدة «شخص غير مرغوب فيه» لشاعر المقاومة العزيز سميح القاسم رحمة الله عليه وعلى كل مقاوم من أجل الحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان