ذكرى انقلاب تركيا وجلد الذات

نستطيع أن نقول إن الشعب المصري لم يقصر في مواجهة الانقلاب، بل لعل ما حدث في مصر كان حافزا إضافيا للأتراك للتحرك العاجل والكثيف.

ولأننا لا نزال نحيا  في رحاب ذكرى الانقلاب الفاشل على الديمقراطية في تركيا منتصف يوليو/تموز من العام الماضي، فقد تبارى المعلقون والكتاب في شرح أوجه الشبه والخلاف بين نجاح الأتراك في إفشال الانقلاب خلال ست ساعات فقط، بينما فشل المصريون في إسقاط الانقلاب رغم مرور أكثر من 4 سنوات، وبدا الأمر في كثير من تعليقات المصريين (من مقاومي الانقلاب تحديدا) مركزا على دور القيادة في دحر الانقلاب، متجاهلا العديد من العناصر الأخرى التي توفرت في تركيا ولم تتوفر في مصر، وبدا الأمر أقرب إلى جلد الذات منه إلى التقييم الموضوعي الذي يستخلص العبر، ويستفيد بالتجربة لقابل الأيام.

لا يمكن لعاقل أن يتجاهل الدور الحاسم للقيادة في تركيا مقابل نظيره المصري، فبينما بدت القيادة في تركيا صاحبة رؤية واضحة وجاهزة للتحرك، كانت نظيرتها في مصر مرتبكة، لأنها لم تكن تتحسب لوقوع الانقلاب ( سوى مع إنذار الـ48 ساعة) رغم الكثير من التحذيرات السابقة، وظلت الثقة – ولو ظاهريا – قائمة في قادة القوات المسلحة،  أما في تركيا فقد كانت القيادة تتحسب للانقلاب عليها منذ فترة طويلة بحكم العلاقة المتوترة أصلا مع الجنرالات، وزادها توجسا الانقلاب في مصر، وتحركات الثورات المضادة في المنطقة عموما.
وقد أعدت القيادة التركية العدة للمواجهة في أي وقت وهو ما ظهر فور وقوع الإنقلاب، حين تحركت قواعد حزب العدالة والتنمية ونزلت الشارع فورا دون توجيهات مركزية، وشجعت بقية الشعب على النزول، وما ظهر أيضا في الاتصال الذي أجراه الرئيس أردوغان مع مذيعة شبكة سي إن إن التركية، ودعوته للشعب للنزول، وتوجيهه إلى مسارات محددة بينها المطار ومقار مديريات الأمن، وأيضا ما ظهر من تصريحات مبكرة جدا لرئيس الوزراء بن علي يلدريم في اللحظات الأولى للمؤامرة  لدرجة أن الكثيرين علموا بخبر الانقلاب من تلك التصريحات التي أوضحت أن هناك تحركات عسكرية، وأنه جاري التعامل معها لاحتوائها.

دور الشرطة الخاصة

دور القيادة لم يكن العنصر الوحيد في معادلة النجاح التركي، فقد كان إلى جانبها عناصر أخرى مثل وجود قوات الشرطة الخاصة التي جهزها أردوغان لمثل هذا اليوم، والتي نجحت  مسنودة بالحشود الشعبية في مواجهة مدرعات العسكر، وتحرير بعض المنشآت التي احتلها الانقلابيون، بل إن أحد أفرادها (عمر خالص) هو أول من أربك  خطة الانقلابيين حين قتل المنسق الأول للانقلاب الجنرال سامح ترزى الذي ذهب الى مقر القوات الخاصة  طالبا استسلامها، كما أن الجيش التركي لم يكن كله مشاركا في الانقلاب بل ظلت بعض فروعه على ولائها للقيادة الشرعية، حتى إن رئيس الأركان نفسه خلوصي أكار ظل على هذا الولاء رغم أن الانقلابيين حاصروه واحتجزوه في مكتبه، كما أن قائد الجيش الأول أوميت دوندارهو الذي اتصل بأردوغان في الفندق الذي كان يقيم فيه معلنا ولاءه له،  وناصحا إياه بالتحرك إلى مطار إسطنبول وليس أنقره حتى يستطيع تأمينه، لم تكن عناصر القوة المادية هذه ( قوات شرطة خاصة، وبعض فروع الجيش) متوفرة للحالة المصرية، فحتى الحرس الجمهوري الذي يفترض بولائه لرئيس الجمهورية والذي يعمل تحت إمرته مباشرة شارك في الانقلاب عليه، وهو الذي قام باحتجازه ونقله من قصره الرئاسي إلى مكان آخر.

ليس سرا أن فكرة إنشاء قوة شرطة خاصة كانت مطروحة للنقاش في الشهور الأخيرة لحكم الرئيس مرسي خاصة مع استمرار حالة التمرد غير المعلن لرجال الشرطة، وعدم الرغبة في التعاون مع المسئولين التنفيذيين، وكانت فكرتها الأولية تقوم على تخيير رجال الشرطة العاملين في الخدمة للانضمام إليها مع بعض الحوافز، ورفدها بعدد آخر من خريجي كليات الحقوق والخدمة الاجتماعية  بعد تدريبهم لفترة ستة أشهر مثلا، ولكن التشويش على الفكرة من قبل إعلام الثورة المضادة، ووصفها بأنها محاولة لتشكيل ميليشيات أو حرس ثوري على غرار نظيره الإيراني، ثم وقوع الانقلاب قتل الفكرة في مهدها كما قتل أفكارا أخرى كانت طور التشكل في مجالات أخرى، وليس عيبا الاعتراف بالخطأ في عدم الإسراع بتشكيل هذه القوة الخاصة، وعدم الرضوخ لابتزاز قوى الثوة المضادة .

حشود المصريين وصمودهم

لم يكن نزول المصريين إلى الشوارع ضد الانقلاب أقل من الأتراك بل من المؤكد أنه كان أكثر وأوسع انتشارا، وأطول مدة، وأكثر تضحية حيث تعدى شهداؤه الآلاف في مقابل 255 شهيدا في تركيا ، لكنه افتقد إلى عناصر القوة المادية ( شرطة أو جيش) من ناحية كما افتقد لرؤية واضحة للتحرك، إذ إن عشرات الآلاف الذين نزلوا يوم فض رابعة في غالبية المحافظات، وكذا في جمعة الغضب التالية للفض مباشرة (16 أغسطس 2013) عبرت فقط عن حالة غضب وهياج ثوري، وتوجهوا بشكل تلقائي إلى أقسام الشرطة ومديريات الأمن  ليواجهوا بصدورهم العارية طلقات الرصاص الحي بينما كانوا عزلا تماما، في حين صب البعض الآخر غضبه في بعض الكنائس والمنشآت المسيحية وهو أمر لم يكن ليخدم  قضية الغاضبين، بل استثمره النظام لكسب تعاطف داخلي وخارجي..

مواجهة الأتراك لمدرعات ودبابات الانقلابيين كانت رائعة ولا شك، لكنها كانت تستند إلى دعم عسكري من قوات الشرطة الخاصة، وبعض طائراتها، في حين أن المتظاهرين الذين نزلوا بعشرات بل مئات الآلاف في مصر تعرضوا للقصف من الطائرات سواء في رابعة أو في رمسيس، وإذا كان الأتراك قد أنهوا مهمتهم بنجاح في ست ساعات فإن مناهضي الانقلاب في مصر لم ييأسوا على مدى أكثر من أربع سنوات ، ولا يزال الأمل يحدوهم بيوم قريب يحققون فيه هدفهم، مع تصاعد الغضب الشعبي ضد نظام السيسي  سواء من معارضيه أو حتى مؤيديه الذين اكتووا بناره، واكتشفوا أوهامه، وتيقنوا من خيانته الوطنية، ولعل المقاومة الباسلة التي أبداها أهل جزيرة الوراق دفاعا عن بيوتهم التي أرادت السلطة إزالتها، وقدرتهم على صد الهجوم في جولته الأولى وإجباره على تأجيل الإزالة كان استلهاما للتجربة التركية واستخداما لبعض أدواتها الرمزية كما هو الحال في استخدم ميكروفونات المساجد في الحشد والمواجهة.

باختصار نستطيع أن نقول إن الشعب المصري لم يقصر في مواجهة الانقلاب، بل لعل ما حدث في مصر كان حافزا إضافيا  للأتراك  للتحرك العاجل والكثيف لأن التجربة المصرية كشفت لهم أنه ما لم يتم وأد الانقلاب في مهده فسوف تكون مقاومته بعد ذلك أكثر كلفة، كما يمكن القول بكل اطمئنان أن الشرعية في مصر كانت بحاجة لقوة تخلص لها وتحميها، وأن التأخر في تأسيس هذه القوة كان خطأ كبيرا، وإذا كان هناك ثمة تقصير في تأسيس تلك القوة قبل الانقلاب فإن الصمود الأسطوري للرئيس مرسي في مواجهة كل الضغوط التي يتعرض لها والتي وصلت إلى حد تهديد حياته، وكذا استمرار الحراك الميداني حتى الآن ( حتى مع تراجع أعداده) يعزز الأمل بالقدرة على اسقاط هذا الانقلاب في وقت نرجو أن يكون قريبا. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان