وبعدين يا مصر؟

كان يصعد التلة، حاملاً الكثير من الزاد والأدوات والأحلام، فجأة رأيته يسقط ويتدحرج بقوة نحو السفح، تعالت الأصوات تطالبه بأن ينهض، لم يكن يستمع لأحد، ولم يكن قادراً على تلبية هذه المطالب فى حال سماعها، ولم تكن تعنيه أشياؤه التى تناثرت بشكل عشوائى، وأظنه لم يكن يفكر فى أسباب السقوط ولا في إمكانية النهوض، ولا حتى في مصير الممتلكات التى فقدها، باختصار: لم يكن يفكر ولم تكن حالته تسمح بأي تفكير، فالانهيار هو كل شىء.. هو المسيطر على اللحظة: لا عقل، لا مشاعر واضحة، لا تواصل مع المحيط من حوله، ولا استجابة منطقية لنصائح الآخر، وحتى لو افترضنا أنه استمع للنصائح وأدرك حالته وهو يتدرج، فإن كل ذلك لن يعفيه من السقوط، سيستمر يتدحرج أكثر وأكثر، ولن يكون قادرا على فعل أي شيء إلا بعدما يستقر فى السفح، حينها يمكن أن يلملم نفسه وممتلكاته ليبدأ رحلة الصعود من جديد، أو يكتفى بالحياة فى السفح خائفا من تكرار السقوط…
هكذا أرى مصر وهى تتدحرج، فأسأل: وبعدين؟..
كتبت ذلك في يناير 2011 ونشرت المقال بعنوان «وبعدين؟» قبل الثورة بأسبوعين، وبعد كل هذا السقوط عدت لأسأل سؤالي الحائر: «وبعدين؟».. وحاولت أن أكتب جديدا، لكنني وجدت كل أسئلتي في المقال نفسه كأنما الزمن لم يتقدم بقدر ما تدهورت مصر أكثر، وتدحرجت أكثر، فآثرت أن أنشر الكلمات المكتوبة كما هي، لنتبين حجم الركود وفداحة السقوط الذي يبدو أن مصر ستستمر فيه لفترة لا نعلمها حتى صار الوصول إلى نهاية السقوط حلما، وصار الدرك الأسفل مستقرا، ولنقرأ ما كان وونتأمل ماذا تغير؟
أرى البلاد وهي تسقط وتتدحرج للأسفل فأسأل: ماذا بعد أن تستقر مصر فى السفح؟، لكننى للأسف لا أرى سفحاً يوقف هذا السقوط المستمر، لقد تحول السفح إلى هدفٍ نتمناه، لأنه نقطة نهاية لذلك السقوط المهين، قد تستطيع مصر بعده، أن تنفض التراب عن نفسها، وتقف على قدميها لتبدأ من جديد مسيرتها نحو أى شىء… لكن ما هو هذا الـ«أى شىء» الذي سيحدث «بعدين»، وإلى أين نمضى بعد أن نتوقف عن «الدحرجة»؟.
عادة لا يسأل المتدحرجون عن اتجاه وهدف السقوط، لأنه (كما نفهم) حادث مأساوي أو جريمة عرقلة تؤدي إلى مسار تدميري بلا اتجاه ولا هدف.. المتفرجون وحدهم هم الذين يسألون: “مصر على فين؟” وهو سؤال يعبر عن “الفرجة” أكثر مما يعبر عن الدعم واللهفة على الإنقاذ
مشهد السقوط من فوق التل، يبدو سيرياليا يجمع بين المأساة والملهاة، فَشّرُ البلية ما يضحك، لكن المشهد بكل ما يثيره من مشاعر، هو تجسيد واقعى للحظة التى تعيشها مصر: اتجاه إجبارى لأسفل، وهو اتجاه لا تنفع معه الصيحات التحذيرية، ولا الإرادة، ولا الوعى، ولا العلم، ولا المنطق، ولا البطاطس.. لأن كل هذه العوامل بلا قيمة فى لحظة السقوط، لأنها لحظة خاصة جدا، يتساوى فيها الجميع الـ(…) والـ(…)، كل هذه الفوارق ليست لها أهمية إلا «بعدين»، عندما نحتاج إلى الوعى لنحدد مسارنا وهدفنا، والعلم لنخطط لكيفية المضى فى الطريق نحو الهدف، والإرادة لننفذ ذلك.
هذه الـ«بعدين»، ليست اختراعاً جديداً، فهى من أشهر الكلمات التى تربينا عليها فى جيل «الحواديت»، وهى أقصر الأسئلة الجادة التى كرسها السياسيون والمثقفون لتحديد خطط وبرامج العمل فى المجتمعات التى تبحث عن ذاتها، أو تنشد التجديد والتغيير.. «وماذا بعد؟»، وإذا أضفنا إلى ذلك أسئلة قديمة مازلنا بحاجة للإجابة عنها مثل: من نحن؟، وماذا نريد؟، وكيف نحقق مانريده؟، وما هى «عوامل القوة» التى تساعدنا على تحقيق ذلك؟، وما هى «عوامل المقاومة» والقوى المضادة التى تعوقنا وتعطلنا؟، وما هى الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وكيف يمكن ترتيب أهدافنا فى أولويات؟، و… و…. وأسئلة كثيرة ستظهر لنا فى الطريق لتحدد لنا ما نردده دوما ولا نعمل به وهو: وضع تصور استراتيجى لمستقبل هذا البلد الذى يمور بحركة هستيرية وضجيج لا يهدأ، ولكن دون أن يغادر مكانه وزمانه
يقول خبراء الاستراتيجية في العالم المتقدم: «المهم هو الاتجاه وليس الحركة»، لكن لأن المتدحرجين لا يسمعون فقد تحولنا إلى مجتمع «لا اتجاهاوى»، يتحرك كثيرا دون أن يعرف إلى أين، وأحيانا دون أن يعرف كيف، فقد تعود على السقوط.. ليس إلى أسفل فقط، بل يسقط في كل الاتجاهات، ومثل واقعية ماركيز السحرية أحيانا يكون سقوط مجتمعنا لأعلى، كأنه حلم يقظة أو تخريفة خيال، لذلك فإن مجتمعنا لم يتمكن يوما أن يصنع استراتيجية أو مسارا، وظلت حركته أشبه بحركة الثيران فى حلبات المصارعة.. تتحرك انفعاليا دونما هدف واضح، وهو الوضع العبثى الذى رسمه يوجين يونسكو، فى واحدة من أهم مسرحياته بعنوان «الخراتيت»، التى تحدث فيها عن مجتمع تحول فيه الناس إلى خراتيت هائجة تتحرك بقوة من دون أن تدرك ما حولها، ومثل هذه الكائنات ستملأ المجتمع بحالة من الوحشية، يستحيل معها الحديث عن عقل أو استراتيجية
لذلك أدعو الباقين على بشريتهم من أمثال «بيرانجيه» بطل المسرحية إلى أن يسألوا أنفسهم: وبعدين؟.. ويحددوا هوية المجتمع واتجاهه، وكيفية تحقيق أهدافه، لنتخلص من هذا «الخبل الخراتيتى» الذى نعيش فيه.
انتهى المقال القديم المتجدد، ولايزال السقوط مستمراً
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
