حروب تحرير أم لحظة انقلاب القيم؟

ففيما تقرؤه حكومة بغداد على أنه نصر ناجز على الأرض ضد تنظيم الدولة. تنهض عدة تساؤلات
ربما اختار الجنرال الروسي ( ليف روخلين ) البقاء طويلا على صفحات التاريخ، لا بأوسمته، لكن بمقولته “إن الأوسمة لا تمنح عن حروب داخل الوطن”. فقد رفض عام ١٩٩٥ منحه لقب بطل روسيا ورفض استلام نجمة البطولة وهو الذي اقتحم غروزني، بصرف النظر عن رأينا في حروب الشيشان .
أخلاق الحروب الداخلية أو الحروب بالوكالة عبر تاريخها تمثل لحظة انقلاب القيم . وفيها تستباح محددات العقول والمعقول، وتصبح الحقيقة العدو الأول لجميع أطراف الحرب ، وصناعة الأعداء المهنة الأكثر رواجاً. في هذه الحروب تختلف معايير النصر والهزيمة من حيث طريقة الأداء والأهداف المباحة. وعندها تصبح قوانين الحرب أكبر نكتة .
عندما تنقلب القيم يصبح المدنيون مادة الحرب، أما عنوان النصر فيتجلى بالقدرة الفنية لساداته على الإطاحة بقوائم البلدان. يقول ابن خلدون ( الظلم مؤذن بخراب العمران ). وهذا يساوي أن الخراب لا يمكن إلا أن يكون النتيجة الطبيعية للظلم والاستبداد .
في العراق مثلا ولا يختلف الأمر كثيرا في سوريا ومثله في اليمن وليبيا، الناظر من بعيد أو من قريب لأطلال ديار كانت ديارا، يتأكد بأن أسرابا من الهمجية مرت من هنا وأن حقبة من التاريخ دانت لصغار القوم، عنوانها :
الحروب بالوكالة شكل من أشكال مراحل انحطاط الأمم ونمط من أنماطها ، فيها يصبح التزييف والتضليل واستلاب إرادات الشعوب هي العوامل المرجحة لكسب الحرب . غير بعيد ذلك التصور لنكبة الموصل ( قلب نينوى) العراقية التي غنى لها التاريخ أياماً وتفاخرت بها الجغرافيا، فقد أحالتها الحروب بالوكالة الى أثر بعد عين، في حرب قيل إنها حرب تحرير من عدو تشارك في صناعته كل الاطراف التي تدعي التحرير .
لا يوجد مكان حقيقي واضح تضع عليه الحرب أوزارها، الأرض مازالت مشاعا بين مقاتلين تعددت مرجعياتهم، جمعتهم حكاية الحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، الأمر الذي سيشكل تحدياً جديداً ليس على العراق فحسب لأنها حرب قابلة للتطور ولا مدى لحدودها الزمانية والمكانية. الموصل جزء من الحكاية وجبهة من جبهات الحرب . لذلك فان معيار النصر والهزيمة تحدده جملة معطيات ونتائج، ويحتمل الكثير من القراءات.
ففيما تقرؤه حكومة بغداد على أنه نصر ناجز على الأرض ضد تنظيم الدولة، تنهض عدة تساؤلات،سيكون معها الأمر صعبا في توزيع الاستحقاقات لجهات مشاركة تعددت أوصافها بين داعم ومشارك ووسيط، التقت جميعها على هدف معلن واحد هو مواجهة كرة النار المتدحرجة، ذلك الجامع للأضداد، المانع سياسيا من فتح ملفات الخلاف الاستراتيجي بين الأطراف التي ائتلفت مواقفها حيناً فيما قلوبها شتى تنتظر لحظة إعلان الخلاص من العدو المشترك الممتنع عن التعريف الحقيقي .
لم تكن حكومة بغداد على وفاق مع الهوى الشعبي العراقي قبل أيام قليلة من التوجه إلى حرب الموصل قبل تسعة أشهر . هذا يعني أنه بانتهاء هذه الحرب سيعود سقف المطالبات أكثر ، لأن الحروب لا تنكر أخلاقها والمنتصر فيها خاسر ، وإذا كانت المطالب الشعبية تعذر تحقيقها مؤقتا بسبب الحرب لدفع الضرر الأعم بالضرر بالضرر الأخف، فإن الوقت قد حان لاستنهاض المطالب على قاعدة (مَا جَازَ لعذر بَطل بزواله) .
المواجهة الأخرى تتمثل بمشكلة الإيفاء للفصائل الميليشياوية المقاتلة التي ازدادت توحشاً ومراساً مع لعبة الدم والهدم والاستباحة في حرب مباح فيها القتل دون حساب نظرا لطبيعة هذه الحرب متعددة الاقطاب . والتي تحمل جملة من المجاهيل ، عجز المراقبون من فك طلاسمها المحيرة التي جعلت المرء يبدأ صباحه برأي ويمسي على نقيضه .
العناصر المليشياوية المشاركة بالحرب والحسم لم تخف أجندتها فقد كانت صريحة جداً بكشف مرجعياتها المذهبية والإقليمية . لذلك ترى الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني ومن دون حرج يستعرض جولاته بين مقاتلي الحشد الشعبي، ومثله أبو مهدي المهندس القيادي في ذلك الحشد تراهما يتنقلان من الموصل العراقية إلى الأراضي السورية على قاعدة وحدة القضية بالنسبة لهما . إذ الحرب بمفهومهم واحدة ومنسجمة جدا مع فكرة الولايات المتحدة الامريكية التي جسدتها إشارة الكولونيل ( ديان ديلون ) المتحدث باسم قوات التحالف أنه بتحرير الموصل، فإن مدينة الرقة السورية أصبحت محاصرة تماما في إشارة إلى أن هذه الحرب لا تقف عند مفهوم الحدود، يشابه ذلك فكرة (داعش ) التي مزق مقاتلوها جوازات السفر على الحدود العراقية السورية قبل ثلاث سنوات معلنين لحظة تكسير الحدود وإزالتها. إذن الكل يكسر الحدود ويبعث برسائل النصر والغضب .
رسالة الأكراد هي الأخرى تحتاج إلى إجابات من حكومة بغداد والاستفتاء على الانفصال موعده سبتمبر/ أيلول المقبل . استفتاء يمثل أحد مخرجات الدستور العراقي أو كما يسميه العراقيون ( دستور بريمر ) وتنص مادته الـ 140 على تطبيع الأوضاع في محافظة كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها في نينوى ( الموصل ) وصلاح الدين (شمال) وديالى (شرق)، للانضمام إلى الإقليم الكردي بمحافظاته الثلاث اربيل والسليمانية ودهوك . والأكيد أن الأطراف الكردية المدعومة دوليا تمتلك قوة عسكرية وتنظيمية حاكمة داخل الاقليم الكردي والمناطق المتاخمة له , وقد كان للأكراد الموقف الأبرز في ملف الموصل , ابتداء من فتح حدود الاقليم لاستقبال قيادات جيش المالكي وقطعاته الهاربين من داعش في الموصل قبل ثلاث سنوات , وانتهاءً بالمشاركة الفعلية للأكراد في حفل القتال الدولي الجماعي في الموصل . والناظر الى المثلث العراقي السوري التركي سيجد الاكراد في قلب معادلته الاستراتيجية، فهل ستستجيب بغداد لجملة تحديات هذا الملف؟
هزيمة داعش في الموصل وانقشاع غبار المعركة سيكشف عن جروح مفتوحة تحتاج إلى عمليات كبرى أشدها مضاضة ملف الدمار الشامل الذى تمخض عن التحرير والنصر . إذ تشير الإحصاءات الأولية إلى ما يقرب من خمسين ألفا من الجرحى المدنيين نساء وأطفالا شيوخا وشبابا، وما يقرب من خمسة عشر ألف قتيل مدني،وما يقرب من ثمانمئة وخمسين ألف مهجر ونازح في أرض الله. ضحايا يشكون إلى ربهم حربا جاءت بمقاييس وعقائد الآخرين بامتياز، حربا قتل فيها الطفل وقتلت فيها المرأة وقتل المستجير بمسجده أو بصومعته وقطع فيها الشجر وهدم البناء . أسئلة لا تحتمل الترك .
الموصل ليست إلا موقعة وجبهة من جبهات القتال ضمن استراتيجية التحالف الدولي وهو يحمل اليوم مشروعه الاستراتيجي الذي يمثل العراق أحد مراميه بعد فتح جبهات على الساحة السورية وبعض المناطق على أرض العرب، إذ الملفات متداخلة فيما بينها ما يتيح المساحة مفتوحة على المدار العربي
المنتظر هو النتائج المترتبة لما بعد انتهاء المعركة حيث إن للموصل خصوصيتها الجغرافية والتاريخية والرمزية، ومعايير النصر والهزيمة هي جوهر الفكرة وغاية المقصود . ذلك لأن معيار النصر لا يحدده فقط إخضاع الأرض قسراً لأقدام الجنود لأن النصر يعني حياة، أما ما حدث للموصل من هول التدمير والتهجير والإبادة يجعلنا في دائرة قول قائلنا :
أخـي ، إن عاد بعد الحرب جنديٌّ لأوطانـه
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلّانه
فلا تـطـلـب إذا ما عُـدتَ لـلأوطـان خـلّانــا
لأنّ الـجـوع لم يترك لنا صـحبـاً نـنـاجـيهـم
ســوى أشـباح مـوتــانــا
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
