“برشلونة” محطة جديدة للإرهاب “منخفض الكلفة”

رغم أنّ مدينة برشلونة كانت مُتأهّبة لأيّ عمليّة إرهابية، لكنّ من الواضح أنّ الحذر وتشديد القبضة الأمنيّة وتكثيف المُراقبة لا يمكنه أن يقف حاجزا أمام إقدام الإرهابي على تنفيذ الجريمة وإرباك الناس والشرطة معا، إذا ما تعلّق الأمر بعمليّة إرهابية من صنف “الإرهاب المنخفض الكلفة”، وهو مصطلح مُتداول في عالم اقتصاد السّوق ويعني المُنتج الذي يفي بغَرضِ إنتاجه، فكلفته منخفضة ولا يحرص على معايير الجودة. كذلك هو الإرهاب مُؤخّرا، لا يُكلّف لا دورات تدريبية ولا مهارات لوجيستية، بل فقط عقلا أجوف قابلا للشّحن بكلّ أصناف الشّر والإجرام وقلبا أسود قاتما، مُتوفّران معا في كائن ينتمي بيولوجيّا إلى الإنسانية. تركيبة تضمن القدر الأكبر من الرّواج لو توفّرت باسمٍ عربي.
تختلط الرّوايات في الأحداث الإرهابية كالتي عاشتها برشلونة مساء الخميس وتجنّبا لهذا الخلط سننطلق من اختصار للأحداث حسب تسلسلها الزمني اعتمادا على وسائل الإعلام الكتالانية الرّسمية في المقام الأوّل.
الساعة الخامسة مساء من خميس الثالث عشر من أغسطس، شاحنة بيضاء تحمل علامة شركة إيجار سيارات إسبانية تسير من شارع “بيلايو” إلى شارع الـ “رامبلاس” اِستجابة لخط السّير اليمين، الشّارع السّياحي الأشهر في المدينة والذي به ممشى شاسع في الوسط، تحدّه يمينا وشمالا أكشاك لبيع المنتجات التقليدية السياحية، تتخلّلها مقاهٍ ومطاعم، هي في الأساس امتداد لمطاعم توجد على أطراف الشارع الكبير.
على أطراف الممشى ينساب خطّ سير للسيارات والحافلات: على اليمين يصل حتى الميناء، وعلى اليسار يأتي من الميناء ليصبّ في قلب المدينة. وشارع الـ “رامبلاس” آهلٌ بالسّياح وقوات الأمن على مدار اليوم. تقف الشاحنة عند إشارة الدّوران، تفاجئ الجميع باقتحامها للممشى وتنطلق بسرعة 80 كم/س متمايلة يمينا ويسارا، في حركة جنونيّة واضح أنّ القصد منها هو إرباك الجميع ودهس أكثر قدر ممكن من النّاس. بعد قطع 600 م تقريبا منذ انطلاقه ووسط حالة الرعب التي لم تعشها برشلونة بهذا الشكل منذ 1987، تمكّن السائق من مغادرة الشاحنة بهدوء عجيب ليتمكّن من الدخول وسط الجلبة والهروب نحو الأزقّة الضّيقة المتفرّعة يمينا والتي تُفضي إلى حيّ “الرّافال”، ذي الأغلبية المُهاجرة.
بعد ساعتين، وغير بعيد عن مسرح العمليّة، وتحديدا في شارع “دياغونال” واجهت الشرطة بالرصاص شابا كان يقود سيّارة فورد في اِتجاه طريق الخروج من برشلونة نحو الجنوب، متجاوزا نقطة تفتيش مروري بطريقة جنونية. ثبت حينها أنّ هذا السّائق المُتهوّر سرق السّيارة بعد أن أردى صاحبها الحقيقي قتيلا بطعنات وأخفاه تحت كراسي السّيارة ذاتها. سَرى الخبر في وسائل الإعلام على أنّه على علاقة بالفارّ من عمليّة شارع الـ “رامبلاس”، ثمّ وقع تجاهله وسط التطوّرات التّالية.
بعد سبع ساعات من عملية برشلونة وعلى بُعد 120 كم جنوبا، اِقتحمت شاحنة مُستأجرة (أيضا) بها خمسة شبّان (بأسلحة بيضاء) أعمارهم بين 17 و24 سنة، ممشى على ساحل “كامبريلز” بنفس أسلوب عمليّة برشلونة ومن حسن الحظّ لم تُخلّف سوى قتيلة وبعض المصابين من بينهم شرطيّ قصفهم على الفور “دون الحاجة لذلك”، والعبارة للمتحدث باسم شرطة كتالونيا جوزيب لويس ترابيرو.
و يبدو أنّ هناك مُخطّطا إرهابيّا أفظع كان يُحاك للمنطقة، فقد صرّح المصدر نفسه بأنّ انفجارا وقع في مدينة ألكنار (90 كم جنوب كامبريلز) الأربعاء ليلا كان بمثابة الخطوة الأخيرة للتحضير لعملية برشلونة. فقد تفاجأ أهالي المنطقة ليلا باِنفجار هائلٍ في منزل يقطنه شباب عرب بطريقة غير قانونية. يبدو أنّ بعضهم قاموا بتجربة كيميائية تكلّلت بأضرار جسيمة. فقد اِتّضح للشرطة أن المنزل عبارة على مختبر يحتوي 100 عبوّة غاز مطابخ ومواد تفجيرية من بينها مادّة الـ TATP المتداولة في عمليّات داعش. إضافة إلى وجود ثلاث جُثث تحت رُكام المنزل المُحطّم وثبوت وجود علاقة أربعة جرحى بهذا الانفجار.
المعلومة الصّادمة في خضمّ هذه الأحداث أن الشّكوك تحوم حول أنّ المُنسّق لكلّ ما جرى هو إمام منطقة ريبّول “عبد الباقي السّاتي” التي تقطنها عائلات عناصر الخليّة وأنّه يمكن أن يكون واحدا من الجثث باِعتباره غائبا عن الأنظار منذ يومين قبل وقوع العمليّة، ولم يخرج لتكذيب ما قيل بشأنه.
وحسب تحليلات المصدر نفسه، يُمكن أن تكون عمليتا الـرامبلاس و كامبريلز قد نُفِّذتا بدون مُتفجّرات باعتبار المُنفّذين فشلوا في إعداد الوصفة التّفجيرية التي نصّ عليها من قاموا بتوجيههم و فضّلوا قبل أن ينكشف مُخطّطهم كاملا أن يُقدموا على التّنفيذ في يوم الغد دَهسا فقط. لكنّ المُؤكّد أنّ منزل الكنار هو مربط الفرس في القضيّة.
عمليّات متفرّقة، أجمعت السّلطات الأمنية أنّها تُدار من مركز قيادة واحد بأدنى الإمكانيّات في ظلّ ضمان وجود خليّة تستجيب للبرمجة. خليّة كاتالونيا بمحطّاتها الثلاث دفعت من صفوفها خمسة قتلى في كامبريلز، ثلاث جُثث وأربعة جرحى في ألكنار وفارّا لحدّ اللّحظة يُدعى يونس أبو يعقوب يبلغ 22 سنة.
أمّا بخصوص الشاب إدريس أوكبير سوبرانو ذي الـ 27 سنة والذي تم تداول صورته بعد ساعتين من وقوع العملية الإرهابية، باعتبار أنّ الشاحنة (أداة الجريمة) وقع استئجارها باسمه، فهو شقيق موسى أوكبير البالغ من العمر سبعة عشر عاما (أحد قتلى كامبريلز) وهو رهين الاِستنطاق منذ الخميس لاِحتمال وجود صلة بينه وبين الخليّة الإرهابية.
مهما تضاربت التّصريحات (وهذا محتمل) واختلفت الاِستنتاجات فإنّ الأمر لن يُغيّر من مُعطيين ثابتين:
الأوّل، أنّ حصيلة 14 قتيلا وأكثر من 120 جريحا التي خلّفتها العمليّة الإرهابية الأخيرة بتفرّعاتها هم في الأخير أبرياء ينضمّون إلى سلسلة أبرياء طويلة تدفعها الإنسانيّة كضريبة لثقافة العنف والكراهية وحُمّى التّرويع التي أصبحت تكشف عن شياطين الإنس المُصابين بها. أمّا الثّاني فيتعلّق بكوننا كعرب مسلمين ندفع الضّريبة أينما كُنّا بسبب أغبياء أجرموا في حقّ أصلهم ودينهم قبل أن يُجرموا في حقّ الإنسانية.
لا يمكننا أن ننكر أنّ الخليّة التي نفّذت العمليّة الأخيرة على الأرض الإسبانية تتشكل من مجموعة شباب بأسماء عربيّة وإن حملوا جنسيات أو إقامات إسبانية حديثة. (ثلاثة يحملون اسم محمد، فيونس، يعقوب، موسى، ادريس…). وحتّى وإن تعذّرنا بأن عمليّات إرهابيّة أخرى تمّت على أيدي مجرمين غير عرب، يجب أن نعترف أنّه كُلّما كانت العمليّة الإرهابيّة بإمضاء عربيّ كلّما ضمنت الرّواج الإعلامي وضمنت تحقيق هدفٍ يبدو منشودا: سريان الخوف الدّائم في قلوب الجميع وربط مصدره في لاوعي الغربيّين بشخصٍ بملامح عربيّة. أوليس إرهابا مُنخفض الكُلفة؟
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه