من بعيد يأتي الخبر السار؟!

أنظمة حكم الفرد والدولة السلطوية الأمنية فشلت تماما في بناء الاستقرار، وتوفير العيش الكريم لشعوبها منذ أن تحررت من الاستعمار
من بعيد، من كولومبيا في شمال غرب قارة أمريكا اللاتينية، في أقاصي الدنيا، يأتي خبر إعلان إنهاء النزاع العسكري الداخلي، وإحلال السلام بشكل نهائي في هذا البلد، إلى العرب، إلى أنظمة الحكم التي تُغرق شعوبها في نزاعات وصراعات وحروب دموية، والشعوب لا تملك من أمرها الشيء الكثير لتقاوم به شهوات الاستحواذ على السلطة، والفتك بمن يفكر في الاقتراب من العروش.
دول الأزمات الداخلية في العالم تسير بشكل حثيث نحو التفكيك، والتوجه نحو الحوار والتفاهم والسلام والتعايش، وتحكيم الإرادة الشعبية، وتداول السلطة بشكل مثير، إلا في بلاد العرب، فإن الرغبة في الاستبداد لا تهزمها أشواق الديمقراطية من جانب الشعوب، ليس هناك في قمة التغيير أكبر وأشد من الثورة، ومع ذلك لم تفلح الثورات في التغيير، تخّفت السلطويات القديمة عن الأنظار حتى استردت نفسها وعافيتها وعادت تنقض على الحكم الذي تعتبره حقا حصريا لها، لتجد الشعوب نفسها بين استبداد بوجه جديد في لعبة ديمقراطية شكلية، أو بين حروب مدمرة حتى لا يغادر الاستبداد القديم خنادقه.
من أوربا الموحدة إلى أمريكا الشمالية تعلن الديمقراطيات العريقة والمستحدثة عن نفسها، فلا تشهد نزاعات ولا حروبا داخلية، إنما تنافسا سياسيا محموما على إسعاد ورفاهية الشعوب، وتحصين الأوطان.
ومن أمريكا اللاتينية إلى مناطق واسعة في آسيا، تجد الديمقراطيات الناشئة في بلدانها تتحرك إلى الأمام رغم بعض العثرات، لكن الإصرار معقود من النخب والشعوب على عدم السقوط في آتون اقتتالات أهلية، الماضي القريب درس بليغ لهم، ولهذا ليس غريبا أن تضم مجموعة العشرين أقوى اقتصادات العالم أكبر عدد من الآسيويين واللاتين بعد دول أوربا وأمريكا.
المأساة في هذا العالم تتجسد في الكتلة العربية من المحيط إلى الخليج، بؤس سياسي وإنساني واستبداد مقيم ومستحكم ومتجبر، يسوم الشعوب سوء العذاب في الحرية والمعيشة، ولا ينافس العرب غير أفريقيا حيث الديكتاتوريات والصراعات الدموية على الحكم، لكن مع ذلك نجد داخلها حراكا ديمقراطيا مبشرا في العديد من بلدانه التي أرهقتها الحروب، والتقدم في هذا المسار مستمر، ففي العام الماضي فرضت الديمقراطية نفسها على بلد صغير اسمه غامبيا، وغادر الديكتاتور المهزوم إلى المنفي، وقبل أيام جرت انتخابات في كينيا، ورغم رفض زعيم المعارضة الهزيمة، إلا أن النتائج كانت متقاربة بينه وبين الرئيس الفائز، ما يوحي بقدر كبير من النزاهة، وقد قرر الذهاب للمحكمة العليا لتفصل في صحة الانتخابات، وهذا سلوك حضاري يجنب البلاد عنفا حدث في 2007، وكاد يتكرر في 2017، العقلية النخبوية السياسية تطورت، واحتوت تفجر نزاع دام، في المجمل تتحرك أفريقيا وإن كان ببطء، وهذا أفضل من البقاء في دوائر الانقلابات، والحروب الطويلة الطاحنة التي تجعلها مع العرب في ذيل مؤشرات التخلف العالمي.
عانت أمريكا اللاتينية من الانقلابات التي جلبت طغاة دمويين، ودخلت في اقتتالات طويلة حولت بلدانها إلى بحيرات من الدماء والخراب، لكنها وفي لحظة استفاقة تاريخية وبعد أن ذاقت ويلات أنظمة عسكرية فاشية قررت الانضمام لمسيرة الديمقراطية، كما فعلت دول أوربا الشرقية فور تحررها من سطوة الاتحاد السوفيتي بعد تفككه، وهكذا كل دولة نجحت أغرت أخرى على السير في هذا الطريق الأخضر الآمن، باستثناء كوبا التي هى مثل نظيراتها العربيات تتمرد على التحول الطبيعي نحو الإصلاح الشامل، ورغم أن بعض الديمقراطيات تواجه تلاعبا وصراع مصالح غير نظيف من قوى سياسية داخلية مثل الإطاحة برئيسة البرازيل العام الماضي، والأزمة المعقدة في فنزويلا، لكن التجربة في البلدين مستمرة، وفي عموم القارة، والجيوش توقفت عن المغامرات.
كولومبيا شهدت أطوال نزاع عسكري أهلي في العالم، بدأ عام 1964، وانتهى العام الماضي، 52 عاما رُوعت البلاد خلالها من حرب طاحنة، وعمليات اغتيال وتصفية وخطف وتفجير وارتكاب لكل الجرائم من جانب جماعات مسلحة متمردة تواجهها السلطات الحاكمة بعنف أيضا، لكن الدولة لم تسقط رغم تأثر جهود التنمية والأمن فيها، الديمقراطية استمرت حتى تولى السلطة الرئيس الحالي خوان مانويل سانتوس الذي تحلى بالشجاعة ودخل في السلام مع المنظمات المسلحة وأكبرها وأخطرها منظمة “القوات المسلحة الثورية في كولومبيا” المعروفة باسم “فارك”، وبسبب تلك الجسارة حصل على جائزة نوبل في السلام لعام 2016.
الثلاثاء 15/8/2017 سيبقى يوما آخر مشهودا في هذا البلد حيث أعلن الرئيس سانتوس إنهاء النزاع تماما بعد أن سلمت “فارك” كل أسلحتها، وبدأت في الانخراط في العملية السياسية، وإدماج عناصرها في المجتمع.
تمت استعادة 8111 قطعة سلاح، و مليونا و300 ألف رصاصة، وتم تحديد مواقع 873 مخبأ تحوي 795 قطعة سلاح، و22 طنا من المتفجرات المختلفة، و3957 قنبلة يدوية، و1846 لغما مضادا للأفراد، أليس السلام أفضل وأجدى كثيرا من استمرارالنزاع واُستخدام هذا السلاح في القتل، ويقابله شراء السلطة للسلاح أيضا على حساب التنمية لمواجهة المتمردين؟
ليس في تركيا نفط ولا غاز ولا موارد كثيرة، لكن فيها أهم موردين لبناء النهضة وصناعة النجاح هما الديمقراطية والإنسان، لذلك تقدمت، وصارت أنموذجا في الشرق الأوسط، بينما السعودية مثلا وهي الدولة النفطية الأكبر إنتاجا في العالم، وذات المداخيل الهائلة تواجه عجزا في الموازنة، وتعيش فئات من شعبها في أوضاع صعبة، لا تُقارن بتركيا الأقل منها مساحة وموارد بسبب المرض العربي العضال، وهو غياب المشاركة الشعبية والإنسان الفاعل في رسم مصير بلاده.
لا يخلو بلد عربي من مآس وأزمات وفقر وقمع، ولن يكون الحل إلا وفق ديمقراطية إصلاحية نابعة من إيمان كل بلد بضروراته، وبحسب طبيعة تكوينه ونظامه السياسي.
أنظمة حكم الفرد والدولة السلطوية الأمنية فشلت تماما في بناء الاستقرار، وتوفير عيش كريم لشعوبها منذ تحررت من الاستعمار ونشأت الدولة الوطنية، ومع ذلك لاتزال الأنظمة الجديدة القديمة تصر على تبني نفس النهج العقيم دون أن تتعلم من إخفاقاتها، ومن تجارب كثيرة حول العالم.
كولومبيا تحت الحرب الأهلية كانت تشهد انتخابات، يغادرها رئيس ويأتي آخر، واليوم تنفض كل غبار الماضي، وتبدأ فتح صفحة أخرى جديدة ستظهر نتائجها سريعا، فالسياحة تزدهر، والتنمية تتحرك، والمفارقة أن يكون شعبها الأكثر سعادة في العالم، هل يقرأ العرب ذلك؟.
من يريد أن ينقذ نفسه فليفعل كما فعلت كولومبيا، إلقاء السلاح، وقف الصراعات، إنهاء النزاعات، إحلال السلام، ثم الديمقراطية، فلا شيء غيرها كفيل ببناء الإنسان والعمران.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه