اذكروا حقائق موتاكم

حملت الجماهير جثمان “النحاس” حتى مسجد الحسين للصلاة عليه، وكانت أكبر جنازة شعبية في تحدى نظام جمال عبد الناصر، وهو في أشد قوته وجبروته.

 

“اذكروا محاسن موتاكم” حكمة مصرية تستخدم غالبًا عندما يكون الميت صاحب سمعة سيئة، ويسعى ذووه لحماية سيرته من الذكر السيئ بمناسبة موته، وذكر المحاسن عكس ذكر الحقائق، فالمحاسن تخضع للأهواء الذاتية، بينما الحقائق تخضع للوقائع الموضوعية.

وذكر محاسن الميت يخضع للانفعال بلحظة الموت والرهبة أمام جلاله، ولكنها لا تدوم كثيرًا، فسرعان ما تفرض الحقائق الموضوعية نفسها على سيرة الميت، خاصة لو كان شخصية عامة، فتكون السيرة إما عطرة يعقبها دعاء حسن وترحم، أو تكون سيرة نتنة يعقبها دعاء سيئ وتشفى، أو في أحسن الأحوال يتم استخدام كلمة “منه لله” وتكون النية في بطن القائل، والوقائع التاريخية خير شاهد.

مصطفى النحاس ما بين الجماهير والحكومات

 “يا نحاس اشكي الظلم لسعد” هتاف أطلقته حشودٌ وفديةٌ عام 1965 أثناء تشييع جنازة مصطفى النحاس زعيم الوفد وأشهر رئيس وزراء في العهد الملكي قبل ثورة 1952، هتافًا من القلب كان يحمل أهدافًا احتجاجية على نظام الثورة بعد أكثر من 10 أعوام على قيامها، ودفع ثمنه عشرات من الوفديين الذي تم اعتقالهم بعد الجنازة.

امتلأ ميدان التحرير في مشهد غير مسبوق، وحملت الجماهير جثمان “النحاس” حتى مسجد الحسين للصلاة عليه، وكانت أكبر جنازة شعبية في تحدى نظام جمال عبد الناصر، وهو في أشد قوته وجبروته، خاصة وأن حكومة الثورة لم تكن من المقدرين لدور “النحاس” التاريخي، بل وكانت تعتبره من أعداء الثورة رغم اعتزاله العمل السياسي، حتى إنها أصدرت أمرًا باعتقاله هو وزوجته، لولا تدخل محمد نجيب ورفع اسمه من قوائم الاعتقال.

ورغم هذه المظاهرة الشعبية التي تشير إلى مدى حب الناس للنحاس، إلا أن التأريخ للرجل حمل رؤى مغايرة لشخصيته في العديد من المواقف، ربما عن إنصاف أو غير إنصاف، وخاصة في حادث حصار الإنجليز لقصر عابدين في 4 فبراير/شباط 1942 وقبوله رئاسة وزراء مصر بناء على رغبة الإنجليز في مواجهة رغبة الملك، واعتبروه رئيس الوزراء الذي جاء على مدافع دبابات الإنجليز، وقت تصاعد المشاعر الجماهيرية الكارهة للاحتلال، وتصاعد دعاوى الاستقلال. وإن كان بعض المؤرخين الوفديين فسروا موقفه هذا بأنه كان احتواء للأزمة بين القصر والإنجليز، بناء على مطالبة الملك نفسه بقبول رغبة الإنجليز، بدليل أنه بعد توليه رئاسة الوزراء قدم احتجاجًا لسلطة الاحتلال على تدخلهم في شئون الحكم، وهذا ما رآه البعض مناورة سياسية خبيثة لاحتواء غضبة الشعب، ورأى بعض المؤرخون أيضًا أن “النحاس” رغم كل تاريخه في ثورة 1919 وما بعدها كان رجل حكم ودولة أكثر منه مناضل سياسي، وأنه وقف في مواجهة كثير من الحركات السياسية في الشارع وقت توليه مناصب رسمية في الدولة.

وهكذا كان للتاريخ رأي مخالف لرأى الجماهير الغفيرة التي خرجت في وداعه، وتطالبه بأن ينقل مظلمتها لروح سعد زغلول من خلال مشهد مهيب انتهى بقيام حكومة الثورة باعتقالهم بعد الجنازة.

جمال عبدالناصر ما بين البطولة والهزيمة

وبعد هذا المشهد بحوالي 5 سنوات وفي عام 1970 كان هناك مشهد مهيب آخر في أكثر من ميدان من ميادين مصر، بل وصل إلى العديد من المحافظات المصرية، عندما مات جمال عبد الناصر، وخرج ملايين المصريين يودعونه واتشحت مصر بالسواد، ونظم الشعراء المرثيات، وخرجت حتى النساء في المناطق الشعبية يعددن حزنًا على الفقيد، والرجال يهتفون بفقدان قديس الأمة وزعيمها.

وأيضاً بعد انتهاء مشاعر الحزن لحظة الموت، كان للتاريخ وللرؤية الموضوعية رأي آخر، وكان عبد الناصر رغم شعبيته الجارفة أكثر شخصية دارت حولها الخلافات، والتي كانت أهم محاورها كراهيته للديمقراطية واعتقال المعارضين له، وتعذيبهم في السجون ومسئوليته عن هزيمة 1967، ولم يشفع له  طرده للإنجليز وقيادته لمصر وقت العدوان الثلاثي، وقيامه بأكبر مشروعات تنموية في تاريخ مصر الحديث وعدائه للصهيونية.

راسبوتين كاهن الفقراء الفاسد

وهذا التناقض بين التأريخ الموضوعي والتأريخ الانفعالي لحظة الموت ليس حالة محلية مصرية فقط، بل هو أيضا حالة عالمية، فعندما مات الكاهن الروسي يوسوبوف راسبوتين مقتولاً عام 1916م، بكاه الفلاحون الفقراء واعتبروه شهيدًا على يد الأرستقراطيين، رغم أنه كان كاهنًا فاسدًا لم يقدم للفقراء أي إنجاز بل كان وثيق الصلة بالقيصر داعمًا لحكمه ولهيمنة الأرستقراطيين مستنداً على الشعوذة الروحانية التي شاعت حول شخصيته، وكان معروفًا بالعلاقات النسائية والاغتصاب حتى أنه تعرض أكثر من مرة للقتل على يد نساء اغتصبهن، وجاء قتله على يد بعض الأرستقراطيين من عائلة القيصرـ بسبب صراع داخلي داخل القصر، وليس بسبب كونه من عامة الشعب أو الثائرين، ورغم ذلك حزن الشعب الفقير عليه لحظة موته، لمجرد أن قتله تم بيد الأعداء الأرستقراطيين، ولمجرد أنه خرج من بينهن، فكان التناقض بين الحقائق الموضوعية والانفعال الشعبي لحظة الموت.

إبراهام لينكولن محرر العبيد وقاتل الهنود 

 يعتبر إبراهام لينكولن أشهر رئيس أمريكي بعد أن ارتبط اسمه بتحرير العبيد، وهذا ما جعل من اغتياله عام 1865م حادثًا حزينًا للكثيرين، ولكن الحقائق الموضوعية والتاريخية لها رؤية أخرى، وتحمل صورة سيئة لهذا الرئيس الأمريكي، أهمها قيامه عام 1862م بإعدام عشرات من الهنود من قبائل الداكوتا، وطردهم من أرضهم الأصلية في مذبحة سجلها التاريخ، كما أن الوقائع أشارت إلى أنه كان عنصريًا غير مؤمن بالمساواة بين البيض والسود، وكان يريد نقل السود إلى ليبيريا في أفريقيا، وفسر السياسيون والمؤرخون دعوته لتحرير العبيد لهدف تجاري، من أجل جلب أيدٍ عاملة رخيصة للصناعة في الشمال، فرق شائع بين الوقائع والمشاعر الشعبية المنفعلة. 

يزيد بن معاوية الخليفة الذى أثار الجدل

 تولى يزيد بن معاوية الخلافة عام 60 هجريا وفى عهده ثارت الفتن، واستشهد الحسين بن على، وثار عليه أهل المدينة المنورة وبعض من أهل مكة. ورغم أن يزيد كان خليفة المسلمين إلا أن هذا لم يمنع الجدل المثار بعد موته بين العلماء والمؤرخين حول إسلامه أو كفره، وحول إباحة لعنه أو المنع من لعنه، وهل كان بريئًا من تهمة العداء لآل البيت أم كان معاديًا لهم، وأشار العامة إلى أنه كان شاربًا للخمر ونفى البعض عنه ذلك، ورأى البعض أنه كان امتدادًا لكارهي آل سفيان لآل هاشم الذين جردوهم من زعامة قريش بعد نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهكذا يتأكد لنا أن حكمة “اذكروا محاسن موتاكم” تفقد قيمتها الموضوعية أمام حكمة “اذكروا حقائق موتاكم”.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان