درس الهزيمة

إن الحرب معركة تحتاج إلى إرادة النصر وعزيمة المقاومة قبل كل شيء.

لم يكن هناك من يتخيل أن ثمة شاطئا صغيرا في أقصي الشمال الفرنسي سيشهد كل ذلك الهول الذي شهده في ذلك اليوم المهيب عندما انكسرت فيه جيوش أقوي إمبراطوريتين على وجه الأرض أمام ذلك الوحش النازي الوليد.

فقد كان هذا هو شاطئ “دنكيرك” الضيق الذي يتذكره العالم كشاهد على سقوط مدوي لقوى عاتية في الحرب العالمية الثانية.

 احتضن الشاطئ قرابة ٤٠٠ ألف جندي بريطاني وفرنسي اكتظ بهم فلم تسعهم رقعته الصغيرة فنزلوا إلى المياه بملابسهم العسكرية. في ذلك اليوم كان الانتصار الوحيد الذي يمكن تحقيقه هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هؤلاء الجنود الذين ينتظرون إشارة واحده من هتلر لمدرعاته التي تقف مستعدة فيلقون حتفهم فوراً.

 قبل أسابيع فقط كان الجيش الفرنسي هو أقوي جيش بري علي ظهر الأرض، وكانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ثم فجأة أصبحت فرنسا ليست فقط مهزومة في معركة، وإنما كانت عاصمتها نفسها تحت الاحتلال المباشر.

تشرشل مهزوماً

 بدون الدخول في تفاصيل ما جرى وأدي إلىّ ذلك الوضع الكارثي هناك درس خطير تعلمناه من ذلك اليوم، عندما وقف ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا العتيد بشجاعة محدثاً شعبه ومنادياً على كل بريطاني يملك قارباً أن يذهب إلى هناك لإنقاذ أبناء الوطن.

 كان تشرشل حتى هذه اللحظة قائدا مهزوما.. نعم تشرشل العظيم كان في تلك اللحظة رجل أرسل جيوشه خارج حدود بلاده بدون تهديد مباشر على الأراضي البريطانية ثم انهزمت تلك الجيوش هزيمه نكراء أمام جيش دولة كانت حتى الأمس القريب مهزومة تدفع تعويضات مذلة للمنتصرين عليها في الحرب العالمية الأولى.

 هنا يأتي السؤال ما هي حدود الهزيمة وما هو الانتصار، إذا اعتبرنا أن المعيار هو لحظة انكسار السلاح؛ فنحن إذاً أمام هزيمه نكراء تعرضت لها بريطانيا العظمى وأصبح تشرشل مهزوماً يجب محاكمته فماذا حدث بعدها؟

الحقيقة أن الحرب لم تنته بالنسبة لشعب بريطانيا واستجاب الإنجليز لنداء قائدهم (المهزوم)في ملحمة بطوليه نادره الحدوث في التاريخ، فتم إنقاذ ما يزيد عن ٢٣٠ ألف جندي بريطاني وفرنسي بجهود أفراد أكثر منها جهود الدولة، وواجهت بريطانيا وحيدة بشجاعة أعتى آلة حربية في التاريخ وأكثرها عدوانيه وتوحشا وانتهت الحرب، بعد سنوات قليلة، بهزيمة نكراء لهتلر وجحافله وبانتصار مدوٍ لبريطانيا وحلفائها بعد صمود أسطوري أعطانا درساً في أن الانتصار الحقيقي للعدو هو كسر إرادة المقاومة وليس انكسار السلاح.

 إن الحرب معركة تحتاج إلى إرادة النصر وعزيمة المقاومة قبل كل شيء، وإن العدو لا يمكنه أبداً الفرح بانتصاره ما دمنا أقوياء نتحمّل الهزيمة في معركة ونقاوم الفناء فننتصر، وإذا فقط كنا قادرين على عبور الهزيمة بعد الهزيمة والفرار. كان على بريطانيا أن تصمد وحيدة وكان الصمود في حد ذاته انتصارا.

ولم تتوقف الحياة

 لم يتوقف القصف على لندن يوماً واحداً ولم تتوقف الحياة ولا حفلات الموسيقي تحت القصف يوماً واحدا؛ تلك هي إرادة المقاومة والصمود، المقاومة تبدأ أولاً من رفض الاستسلام لليأس والتفرغ لجلد الذات والبكاء على اللبن المسكوب وتلك صناعه للأسف يجيدها الشرق بأكثر مما ينبغي.

 حينما صمد الإنجليز بحث هتلر عن عدو جديد يستثمر فيه آلة الموت الخاصة به وحينها كانت الخطوة التالية للصمود، إعادة بناء القوة والتحالفات وانتظار عثرة الخصم واستثمارها، وهذا ما حدث بالضبط تعثر هتلر في ثلوج روسيا، وضمدت بريطانيا جراحها بانتصار مدو في العلمين (حرب الصحراء) واستطاعت بناء تحالفات قوية مع الولايات المتحدة وساعدت الاتحاد السوفيتي (العدو السابق واللاحق) ثم انتفضت فانتصرت انتصارا ساحقا.

 درس “دنكيرك” يشرح بسلاسة كيف يمكن الانتصار في الحرب بعد الهزيمة في معركة (مهما كانت مراره الهزيمة) باستيعاب الدرس وخطوة وراء خطوة حتى نصل إليّ كيفية الوصول إليّ صيغة مقبولة للوصول إليّ تحالفات مع خصوم الأمس وربما غداً كما حدث مع السوفييت، ثم الوثوب إليّ النصر بعد تضميد الجراح.

 التاريخ يعاقب بشدة من لا يتعلم من دروسه بالحكم على المذنب بتكرار انكسارات غيره، وربما آن الأوان أن نتعلم من غيرنا وأن نستفيد من نكباتهم فنصل إلى الغاية بدون الوقوع في خطيئة استمرار الأخطاء الكارثية.

 فإلى نصر لعله قريب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان