وزير التطبيع السوداني بلا مكياج

وزير التطبيع بالسودان (وزير الاستثمار) –للمفارقة- ينتمي لأسرة دينية وجده الأكبر هو الإمام محمد أحمد المهدي الذي قاتل المستعمرتحت شعار التحرر الوطني.
لم يكتف وزير الاستثمار السوداني مبارك الفاضل بطرح فكرة التطبيع مع إسرائيل، وإنما أرسل نحوها قبلات حميمة، واعتبرها نموذجاً يُحتذى وانتقد حركة حماس، وقال إن القضية الفلسطينية أخرت العالم العربي. ولخلق نفسية تتقبل حديثه زعم أن الفلسطينيين يتآمرون على السودانيين الذين يعملون معهم، واستخدم في ذلك مفردة (حفر) ذات الدلالة (الشوارعية) .. وعبر الوزير بخفة بوابة المسكوت عنه إلى ما بعدها من تضاريس، لدرجة أن تل أبيب بكل صلفها “احمر خدها” وهى تطارحه الغرام، ولسان حالها يقول: (يا مرحى)!
وزير التطبيع – للمفارقة- ينتمي لأسرة دينية وجده الأكبر هو الإمام محمد أحمد المهدي الذي قاتل المستعمر تحت شعار التحرر الوطني، وأرسى دعائم الثورة المهدية شديدة التوهج، لكنه أبدا لم يكن يظن أن نطفة منه تحاول هدم ذلك الإرث الجهادي التليد، إنه مبارك الشهير بالبلدوز، والذي حصل من قبل على لقب رجل أمريكا في السودان، ليصبح اليوم، بلا أدني شك رجل تل أبيب في الخرطوم!
الحكومة سارعت إلى قطع الطريق قبالة تلك التصريحات الصادمة وتبرأت منها على لسان وزير الإعلام، ولجأت إلى حيلة أنها موقف شخصي يعبر عن صاحبه. لكنها لم ترفضها بالقدر الذي يسعف شعاراتها الإسلامية، وكون الخرطوم التي اشتهرت بعاصمة اللاءات الثلاثة في العام 1967(لا سلام مع إسرائيل لا تطبيع لا تفاوض) انضمت اليوم عبر -حليف مهم- إلى محفل الممجدين للكيان الصهيوني، وخرجت دعوات التطبيع من الخفاء إلى العلن، وأصبح الطرق عليها كثيفاً.
كان واضحاً منذ البداية أن مبارك الفاضل يريد أن يفتح ذلك الطريق الشائك، وهو البلدوز المعني، ويمهد لعمل سياسي، ولفرط براغماتيته حول الجاني إلى ضحية، ولا يستنكف أن يباهي بإسرائيل الدولة المركزية عوضاً عن القضية، لينبهنا بصورة ساذجة إلى ديمقراطيتها وأنها طوَّرت زراعة الحمضيات في مصر، وهو بذلك أيضاً يحاول تعرية الأنظمة العربية التي تدين إسرائيل في النهار وتراقصها بأزياء عارية أخر الليل.
لتوها بدت دعوات التطبيع مع إسرائيل تثير حالة من الاهتمام المتزايد بين فصائل القوى السياسية السودانية، وانطلقت الدعوات من داخل فعاليات الحوار الوطني الذي ابتدرته رئاسة الجمهورية. ومن قبل فجرت الناشطة السودانية تراجي مصطفى التي تعيش في كندا وشاركت في ذات الحوار الوطني دعوة مماثلة، وأعلنت تكوين جمعية سودانية للصداقة مع إسرائيل، والتحق بدعوتها رئيس حزب الوسط والداعية الإسلامي المثير للجدل الدكتور يوسف الكودة! تلك الدعوات بما فيها تصريحات مبارك الفاضل الأخيرة تحاول أن تتخفف من تكاليف الموقف المعلن بفواتيره الباهظة، رغم أن المزاج العام كان قد تماهى مع الموقف التاريخي، ولذلك ظلت حركة حماس، تعبر عن فكرة النموذج الأمثل للمقاومة المطلوبة وتحظى بتأييد واسع في الشارع السوداني، سيما وأن إسرائيل نفذت أكثر من غارة داخل الاراضي السودانية، آخرها قصف مصنع اليرموك الحربي جنوب الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول 2012، وأحالت ليل العاصمة السودانية إلى جحيم.
يركل مبارك الكرة إلى الأمام بثقة متناهية، ورغم الجرأة التي تحدث بها -على غير عادة السياسيين- إلا أنه لم يتعرض للمحاسبة، ولم يستعجل البرلمان استيضاحه، ما يعني أن الرجل يعبر عن توجه رسمي جديد، ولا يريد – في الوقت نفسه- أن يضع الحكومة في موضع الاشتباه، كما أنه لم يعد سراً القول إن إسرائيل تقود بعض الجهود لرفع العقوبات عن السودان، وتلوح بذلك الكارت نظير أن تحظى بعلاقة طيبة، هى كل ما ينشده مبارك، وينشده تيار قوي نشط من داخل عرين السلطة.
وما يدلل على أن مبارك لا يعبر عن موقف شخصي هو انتظاره تولي منصب رفيع في الحكومة، ليعلن عن موقفه بلا تردد، ويجيب على سؤال التطبيع بتفاصيل أكثر مما هو مطلوب، لدرجة أنها أدهشت إسرائيل نفسها، وربما أيقظت هتافها الحالم (من النيل إلى الفرات) ليبدو اليوم أكثر واقعية.
يلزمني التنبيه إلى أن مبارك الفاضل انضم إلى الحكومة السودانية قبل أشهر قليلة في صفقة سياسية حصل بموجبها على قضمة كبيرة في السُلطة، وهو رجل يتمتع بقدر من الدهاء ولديه صلات عميقة بالغرب، ويعرف متى يصمت ومتى يتحدث، ومعني تصريحاته المباغته أنه يرى شجراً يسير في صحراء السياسة السودانية، كما أنه لا يمكن أن يغامر بمنصبه في الدولة وعلاقته بالحزب الحاكم ويرفع رجله إن لم يكن يعرف بالضبط أين يضعها. ويعزز من ذلك التحول الكبير في السياسة الخارجية، المتمثل في الخروج من محور الممانعة القديم إلى الدخول في حلف المملكة العربية السعودية، بكل ما فيه تنازلات وجنوح لسياسة الأمر والواقع .
لكن الوزير السوداني فات عليه أن مراكبه في الضفة الأخرى أيضاً سوف تحترق إذا تمادى، وقد مكن – من حيث لا يريد- خصمه وابن عمه الإمام الصادق المهدي من رقبته، ليظهره بمظهر العميل المتهافت نحو دولة مغتصبة، تصدر الموت والعنف، وترعى حتى حركات التمرد السودانية، ولن يستطيع مبارك أن يدفع عن نفسه حملة ضارية سوف تنتاشه بكل سهولة، ووقتها قد يجد نفسه بالفعل طبع علاقته مع إسرائيل وخسر أنصاره وتاريخه، لكنه بالضرورة سيفضح تلك النخبة السياسية التي تسعى للتطبيع وتخشى الجهر بذلك.
هو فقط يختلف عنهم أنه بلا مكياج سياسي.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه