مومياوات ناطقة

لا أعرف ماذا صنع الحداد، لكن يبدو أنه صنع “حاجات مش كويسة”.. عرفت بعضها لما وصف أحدهم العلاقة بيني وبين الصحفي الراحل عبد الله كمال قائلا: “بينهما ما صنع الحداد”.
الحكاية أن خلافاً متوقعاً نشأ بيني وبين عبد الله، وصل إلى درجة عنيفة من الخصومة انتهت بفصلي من عملي، وحرماني من مكافأة نهاية الخدمة في أطول عمل منتظم في حياتي داخل مؤسسة واحدة، وإلغاء تأميناتي الاجتماعية مستخدماً في ذلك “استقالة مزورة”، وقد هددته فعلا بعد مواجهة علنية (لا أحب أن أتذكر تفاصيلها الآن) برفع دعوى قضائية لإثبات تزوير توقيعي، وأكدت أنني لن أتركه حتى يدخل السجن، لكنني في المساء، أرسلت إليه رسالة على الإيميل أغلقت فيها ملف الخلاف، وأرفقت بها استقالتي مؤكداً أني لا أنتظر منه ولا من غيره شيئا فالرزق على الله، ومع الوقت تجاوزنا الخلاف النفسي، وصار عبد الله حريصا على السؤال والتودد بشكل إنساني، وعقب ثورة يناير بادرت بالاتصال به، وتحدثت معه (برومانسية ساذجة تعكس أوهام المنتصرين) عن مرحلة جديدة تتسع للجميع، وكان مما قلته أنني ضد “القوائم السوداء”، لكنني مع قوائم المعرفة لتجنب الوقوع في الأخطاء، وإغلاق الطرق الخلفية بين الإعلاميين والسلطة، ولما لاحظت تمادي عبد الله في “الخط القديم” نفسه مدشنا الأداء العلني للفلول، التقينا على مقهى فيينا كالعادة في وسط القاهرة، وتناقشنا مناقشة غاضبة حول ثورة يناير.. ولم نتفق على أسبابها ولا أهدافها
كان عبد الله يرتاح عندما أخاطبه بلقب “أبو زينة”، لكنني في هذه المرة كنت أكرر مخاطبته باسمه: (يا عبد الله.. يا عبد الله..)، فقال لي انت زعلان مني للدرجة دي؟
وقلت بحدة: مش زعلان منك.. هزعل منك ليه؟.. ما انا عارفك
ابتسم عبد الله وظل صامتا لفترة، وهو يظهر انشغاله بسحب الأنفاس من “حجر الشيشة”، وبعد دقائق قال لي: احنا بينّا مواقف كتير.. معظمها خناقات وخلافات، وكل مرة كنت أنسى كل حاجة في اليوم التالي، لكن فيه مرتين مش قادر أنساهم، هقول لك واحدة منهم النهاردة: في يوم اتقابلنا في المسافة بين مقر الحزب الوطني وفندق هيلتون القديم، وبعد كام متر اختلفنا لما جات سيرة محمد كمال وشلة جمال مبارك، وقلت لي: نازل بنفسك تغطي اجتماع يغطيه صحفي صغير مندوب حزب؟، فقلت لك: أنا نازل لأني بشعر من الغيرة من إن حاجة تفوتني.. نفسي أكتب المجلة كلها لوحدي، أنا بكتب لأن الكتابة بالنسبة لي معناها الخلود.. أنا ماعنديش عيال تحمل اسمي، وحاسس ان الكتابة هي اللي بتعوضني وتحمل اسمي، ولما روحت المكتب تاني يوم لقيتك غيرت توقيعك على حلقات رمضان اللي كنت بتكتبها إلى “خلود عبد الله”، فقفلت المكتب على نفسي من جوه وبكيت، ومن يومها حسيت بارتباك شديد في علاقتي بك، وما بقتش عارف أنا بحبك ولا بكرهك، أحيانا أحس اني بحبك جدا، وأحيانا أحس اني بكرهك لأني اكتشفت انك ما بتكرهنيش… بس برضه ما بتحبنيش..!، لذلك لما بطلت الليلة تناديني “ابو زينة” ومصمم تكرر يا عبد الله.. يا عبد الله، اتأكدت تماما إنك مخاصمني من قلبك ومن عقلك..
سألت عبد الله: والمرة التانية؟
فقال: بعدين…
ولم يمهله العمر ليخبرني بالمرة الثانية أبداً، لكن الخلاف الأخير في “مقهى فيينا”، كان بلا شك هو “المرة الثالثة” التي لا تنسى، ليس لأنه أفصح فيها عن تأثري بمتلازمة “خلود عبد الله”، ولكن لأن الشرخ الخطير بين البعد الإنساني والبعد السياسي قد اتضح بشكل كبير في تلك الليلة، وبعدها التحق عبد الله بحملة المرشح الرئاسي أحمد شفيق، وكنت أعاتبه في رسائل “فيس بوك”، او عبر التليفون قائلاً: سيبك يا “أبو زينة” من الكلام الفاضي ده.. لأنه تضييع وقت، وعندما يشرع في النقاش أقول له: خليك مع زينة .. زينة بالدنيا
ولما بدأ عبد الله يؤسس لموقع “دوت مصر” اتصل بي ليطلب استكتابي بأعلى أجر، وقلت له: ينفع؟
فقال: إيه المانع.. طالما هتكتب بحريتك وماحدش هيحذف لك حرف
قلت: لما تطلعوا بث تجريبي واشوف الموقع نتفق
وكلف عبد الله صديقنا المشترك وليد طوغان، بملف الرأي، واتصل بي وليد أكثر من مرة، وكنت جادا في تلبية طلب الكتابة، ووعدت وليد بذلك، وفي الصباح الذي عزمت فيه على الكتابة وصلني خبر وفاة عبد الله كمال، وكنت حينها أكتب عمودا يوميا في صحيفة “التحرير”، فكتبت مقالي عن الخبر المفجع تحت عنوان يتضمن الاسم فقط “عبد الله كمال”، واندهش كثير من الأصدقاء الذين يعرفون تفاصيل خلافاتنا المهنية واختلافاتنا السياسية، وسألني صديق مشترك كان مقربا من عبد الله منذ تزاملهما في الدراسة: مش غريبة إنك تكتب مرثية في عبد الله يا جمال بعد كل اللي عمله معاك؟
فقلت له: بالنسبة لي.. مش غريبة، لكنها غريبة على زمن الكراهية والخلط والتشاحن.
مرت الأيام، وبدأت اشعر بغرابة ما فعلت، لأنني فوجئت بحملة كبيرة تتحدث عن الصحفي القديس عبد الله كمال.. الثابت على المبدأ! الجريء الذي لم يغير مواقفه!، في نفس الوقت الذي كان أصحاب هذه المدائح يهاجمون كل شيء يرتبط بثورة يناير في مصر، وبدا لي أن “المقال المرثية” انسلخ من قيمته الإنسانية ليفتتح حملة سياسية في مديح الفلول بحجة أن عبد الله كمال لم يغير من ولائه لنظام مبارك، وركز جهوده بعد الثورة في إحياء الحكم المخلوع، وإثبات أن الفلول هم أصحاب الحق والرؤية التاريخية والمستقبلية الصائبة، وبناء على هذه الملاحظة يمكن أن ننظر لأحمد موسى ودندراوي الهواري وخالد صلاح وأحمد الزند ومرتضى منصور وبقية العباسيين، باعتبارهم من أصحاب المباديء الثابتة، والقيم الأصيلة التي لم تغيرها أو تنال منها “مؤامرة يناير” وعيالها بتوع الكنتاكي والتمويل الأجنبي!
الخلط لا يتوقف عند ذلك، والمهزلة لم تتوقف عند حدود الفلول، لكن خرافة “الثبات على المبدأ” التي حاولوا من خلالها إضفاء القداسة على مواقف عبد الله كمال، تكشف لنا أن الجمود الفكري، والانغلاق على تجربة حكم، لم يقف عند كمال والزند ومنصور وزعرور، لكنه داء أصاب معظم الفاعلين السياسيين في مصر، بل والناس العاديين، حيث تنقسم مصر الآن إلى فئات من الثابتين “المتشعلقين” في فترات حكم بعينها، وليس في أفكار أو مفاهيم منفتحة ومتطورة، فهناك من يمدحون الحقبة الملكية، وهناك من يمجدون تجربة حكم عبد الناصر، وهناك أنصار السادات الثعلب بطل معركة العبور، وهناك جمهورية “آسفين يا مبارك”، وهناك من يؤكد أن الليبرالية لم تخرج بعد من الأربعينات وزمن سعد والنحاس، وهناك من يذهب أبعد ويتصور أن الثبات على المبدا يعني إعادة الزمن إلى القرون الهجرية الأولى، أو حتى عهود حكم الأسرات قبل آلاف السنين في مصر القديمة
أيها الثابتون.. أنتم ضد الفهم، ضد التفاعل، ضد التطور، ضد المستقبل، ضد الحياة.. أنتم مومياوات ناطقة.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه