المقدسيون الشجعان .. في زمن الهوان !

ومن يسعى اليوم لسرقة الانتصار من المقدسيين، أو مشاركتهم فيه، فهو لا يعرف فضيلة الخجل من النفس.
معركة إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل المسجد الأقصى المبارك، وإسقاط كافة التدابير الأمنية الإسرائيلية، لن تكون الأخيرة، فهي جولة في حرب قديمة وطويلة وممتدة تستهدف اقتلاع هذا الرمز المقدس للمسلمين من جذوره، وبناء الهيكل اليهودي المزعوم مكانه.
أمة المليار وستمائة مليون نسمة، أنظمة حاكمة، وشعوبا، مطالبة بإدراك خطورة هذه الخطة الخبيثة طويلة النفس إسرائيليا، إدراك عميق يفرض عليها التحرك الجاد لإنقاذ المسجد والمقدسات إسلامية ومسيحية من براثن مؤامرات المحتل الذي لا يعبأ بردود أفعالها التقليدية ممثلة في بيانات الشجب والاستنكار.
في معركة الأقصى التي جرت على مدار أسبوعين “14 يوليو – 28 يوليو 2017” جاء الموقف الرسمي عربيا وإسلاميا دون حتى مستوى الشجب المعتاد، كان الهوان الرسمي معبرا عن نفسه في صورة مؤلمة، ولولا الفلسطينيون الشجعان في القدس المحتلة الذين هبوا دفاعا عن شرف الأمة في هذه المرحلة المظلمة لظلت الأنظمة متدثرة بالصمت الذي يغري إسرائيل على تسريع خطتها في تقسيم المسجد وصولا إلى التهويد الكامل.
ومن عجب أن ينعقد الاجتماع الوزاري العربي يوم الخميس 27 يوليو الماضي، أي بعد 13 يوما من الجريمة الإسرائيلية، ثم ينفض كما انعقد بعد مكلمة معتادة، لأنه في اليوم نفسه كانت قوة الردع الإسرائيلية قد فشلت أمام مقاومة المقدسيين المرابطين حول أسوار المسجد، وهو حراك جاء عفويا، ولم يكن هناك فضل لأحد فيه بعد الله تعالى إلا نخوتهم دفاعا عن الحرم القدسي وافتدائه ولو بالروح، وقد ارتقى في سبيله ستة شهداء، وتعرض المئات للإصابة، فضلا عن الاعتقالات المستمرة رغم بعض الهدوء الذي عاد للقدس المحتلة.
حكومة نتنياهو المتطرفة لن تنسى أثر الاحتجاجات والاعتصامات والإذلال الذي تعرضت له في التراجع الكامل عن كل التدابير التي اتخذتها فقد اضطرت لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل يوم الجمعة 14 يوليو الماضي عندما فجرت الأزمة و أغلقت المسجد ومنعت صلاة الجمعة فيه لأول مرة منذ نصف قرن تقريبا.
نتنياهو والمتطرفون وهم عموم إسرائيل يشعرون بالهزيمة المنكرة من قدرة المقدسيين على الاحتشاد والصمود والاستبسال والتضحيات لانتزاع انتصار صعب ونادر رغم التنكيل الذي يتعرضون له، ورغم عدم وجود غطاء رسمي عربي وإسلامي قوي أو حتى دعم شعبي خارجي يمثل سندا لهم في معركتهم التي يخوضونها نيابة عن جميع المسلمين الغافلين، إسرائيل تدرك أنها لا تتحمل احتجاجات لمدة طويلة، ولا انتفاضة جديدة، ولديها ذكريات لا تنساها من انتفاضتين سابقتين حتى لو كانت استخدمت القوة المفرطة في قمعهما، لذلك كانت مرغمة على التخلي عن كل ما أقدمت عليه من إجراءات استفزازية.
أما الذين كانوا يجلسون على كراسيهم في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه وهم لا يريدون إغضاب الإسرائيلي الذي يحالفونه سرا وعلنا ولو من أجل الأقصى فإنهم جديرين بما قاله المتنبي:
ومن يهن يسهل الهوان عليه، وما لجرح بميت إيلام.
ومن يسعى اليوم لسرقة الانتصار من المقدسيين، أو مشاركتهم فيه، فهو لا يعرف فضيلة الخجل من النفس، أيام المعركة كانت كاشفة للغياب المقصود عن المشهد لمن جاؤوا يتحدثون عن انتصار صنعوه، والإعلام كان حاضرا في تسجيل المواقف التي تصدرتها احتجاجات مقدسية دون شريك لها، وصحيفة “ميكور ريشون” الإسرائيلية فضحت ادعاءات أحد الأنظمة بأنه كان وراء إزالة بوابات التفتيش الإلكترونية حيث كشفت النقاب عن أنه في تواصله غير المباشر مع تل أبيب تفهم وجود البوابات الإلكترونية.
سكان القدس فرضوا إرادتهم على الجبروت الإسرائيلي بالمقاومة السلمية الحضارية عبر الصلاة والدعاء والرباط خارج أسوار المسجد، ويشاركهم النصر إخوانهم في أراضي الـ 48، وفي الضفة الغربية، التي تحتضن سلطة لا تملك من أمرها شيئا غير البيانات والتصريحات، وفي قطاع غزة المحاصر، والمتعاطفون من الأحرار خارج فلسطين.
نتحدث عن فلسطينيين يعيشون في كيانات مجزأة مقطعة الأوصال داخل وطنهم، لا يتمكنون من التواصل والتكاتف المباشر في مواجهة شراسة المحتل، والهدف ألا تقوم لهم دولة مستقلة موحدة يوما، وألا يحدث تلاحم بينهم، لأن في ذلك اندحار لإسرائيل الكيان والشعب القادم من الشتات، فإذا كانت شريحة من هذا الشعب في القدس ناضلت طوال أسبوعين فأسقطت إجراءات أمنية جائرة، فماذا لو كان الفلسطينيون جميعا كيانا ترابيا وشعبيا موحدا؟، المؤكد أن أزمة إسرائيل ستكون أشد من فشلها في إخضاع جزء منهم يعيش داخلها، أو جزء آخر يقع تحت احتلالها المباشر في القدس، وأجزاء من الضفة، أو من تحاصرهم في غزة المحررة .
تتعمد إسرائيل جعل الشعب الفلسطيني في حالة تمزق حتى تتمكن من السيطرة عليه وممارسة القمع الوحشي ضده لتركيعه، لكنها تخفق في ذلك، وتتآكل قدرتها على الردع، ولا تجد أساليبها في بث الرعب صدى في قلوب الفلسطينيين، القوة ليست في البندقية، القوة في الإيمان بالحق، البندقية فشلت في إخضاع جميع الشعوب المحتلة على مدار التاريخ، الشعب الجزائري سجل ملحمة بدماء مئات الألوف من شهدائه في حرب تحرير طويلة ضد فرنسا، والشعب الفلسطيني في نضاله الطويل هو النموذج في الكفاح ضد احتلال صهيوني وحشي يستند على أساطير دينية تلمودية.
الفلسطينيون كلهم منتصرون في معركة المسجد الأقصى المبارك من رابطوا في حضن المسجد، ومن ساندوهم سياسيا ومعنويا وأدبيا، جميعهم هزموا التطرف الحاكم في الدولة العبرية، هزموا إرهاب الدولة الرسمي المدجج بالسلاح، وهم لا يملكون غير أرواحهم وإيمانهم وثباتهم وعزيمتهم واستعدادهم للتضحية، وتلك معاني وقيم لا يعرفها القاتل، كل مرابط في القدس المحتلة وحول الأقصى المبارك، طفلا، شابا، رجلا، إمرأة، شيخا، هو الذي دحر نتنياهو وحكومته وجيشه وشرطته وفرض عليهم ما يريده.
نعم، هناك كلفة كبيرة يدفعها الفلسطينيون في المقاومة السلمية، فهم جميعا هدف للصهيوني الغاصب، الشعوب التي تشتاق للحرية تقدم التضحيات، وهذا الشعب يضحي في سبيل حقوقه المشروعة، ولو لم يقدم الفلسطينيون التضحيات منذ بدأت المؤامرة التي صنعتها القوى الاستعمارية لمنح من لا يملك ما لا يستحق، لكانت فلسطين طُويت صفحتها من كتب التاريخ، وأُزيلت من الخرائط، وسقطت من الذاكرة الجماعية في عالم منحاز، للتضحية ثمرة، ولا تسقط قطرة دم واحدة دون أن يقابلها ثمن في استعادة الأرض ولو شبرا شبرا.
صمد الفلسطينيون حول الأقصى ورفضوا الانصياع لما كان يريده نتنياهو من المرور عبر بوابات إلكترونية لأنهم لو قبلوا بهذا الواقع الجديد لشاركوا في تكريسه، ومنحوه صك القبول، وماكانوا استطاعو إزالته أبدا، مقاومتهم أسقطت فصل في المؤامرة على الأقصى لتقسيمه زمانيا ومكانيا كما حدث مع المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، وهي مخططات معلنة، وينتهز المتطرفون الفرصة ليُفرضوا حقوقا لهم في المسجد بغير حق، ولو بدأوا ببوابة تفتيش واحدة فإنهم شيئا فشيئا كانوا سيزحفون على ما تبقى من المسجد لمصادرته كله، وعندئذ لن يملك المسلمون غير البكاء.
الدعم الذي تلقاه المرابطون حول المقدسات جاء من احتجاجات شعبية محدودة في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، ومن بعض الفضائيات وعلى رأسها الجزيرة التي منحت القضية زخما كبيرا، الدعم الخارجي ضعيف على عكس ما كان يجب أن يكون عليه، إنه الأقصى، وليس أي بيت عبادة عادي، مع أن أماكن العبادة كلها لا يجب أن تُمس، ماذا لو كانت كنيسة تعرضت للحصار ومُنع المصلون من دخولها؟، وماذا لو كان كنيسا يهوديا أغلق ليوم واحد؟، هذا حديث يثير مزيدا من الأسى على حالة الهوان التي وصلنا إليها، لكن مشيئة الله أن يكون هناك رجال ونساء في القدس لديهم الحمية والقدرة على صد الهجمات على المقدسات.
مواقع التواصل الاجتماعي كانت الساحات البديلة في ظل غياب مظاهرات الشوارع في عواصم ومدن العرب والمسلمين، فقد صارت ساحة الاحتجاج المتاحة للشعوب للتعبير عن مواقفها وغضبها خارج قدرة الأنظمة على محاصرتها بقوانينها المانعة وشرطتها القامعة للمظاهرات، الأنظمة الخائفة من شعوبها لا تسمح بالاحتجاج الرمزي ردا على الوقاحة الإسرائيلية، المسجد وقيمته ومعانيه ليست أولوية عندها، ما يعنيها تثبيت عروشها بكتم أصوات الشعوب في الدفاع عن المقدسات، أو في المطالبة بحقوقها في الحرية والعيش الكريم.
ينزلق النظام الرسمي العربي في هوة أخرى من الخنوع، كنا نظن أن ما قبل الربيع العربي هو نهاية الخيبة أمام إسرائيل وأمريكا، لكن اليوم يتكشف أن بئر السقوط بلا نهاية، لذلك يكون مفهوما لماذا لا يُراد للشعوب أن تحصل على حريتها، ولا أن تقرر مصائرها، ولا أن تختار حكامها، ولا أن تستبدلهم إذا أخفقوا، وأن يتحول الربيع إلى دماء وأشلاء وأطلال مبانٍ ومعانٍ، لأن من يديرون العالم، ويخططون له، ويُسّيرون حركته، لا يريدون أن يخرج من هذه المنطقة من يهز إسرائيل صنيعتهم وحليفتهم الوثيقة، أو من يقض مضجعها الآمن ولو بالمواقف الوطنية والعربية القومية الجادة والقوية.
لولا الثابتون على الحق حول الأسوار، وفي الساحات والشوارع، ولولا الشهداء والجرحى والمعتقلون، ولولا الذين يتلقون قنابل الغاز، وضربات الهروات، والرصاص الحي والمطاط، لكان الصهيوني فرض ما خطط له ونفذه للأبد، وليس لأسبوعين فقط.
نعم الناس هم، ونعم نضالهم، والتحية لهم واجبة.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه