تجميل المشوّه

مّن كسّر آنية ميدان التّحرير في القاهرة، ونصّب قادة البلطجية حكاماً مخلّصين على أعظم شعب؟ وعمّن حطّم المتحف السوري وانقاد خلف ديمستورا الذي أعلن منذ أيام انتصار الأسد ودعا لإبقائه.
جرت العادة في اليابان عندما تُكسر آنية خزفية أن يلملموا أجزاءها ثمّ يعيدوا تجميعها ولحمها بعروق من ذهب فتغدو أجمل مما كانت عليه.
ويتساءل المرء أمام هذه الحالة عن الجدوى الاقتصادية من هكذا عمل، خاصة وأنه يستطيع شراء آنية جديدة بكلفة أقلّ بكثير من كلفة اللحام بالذهب. هذا السّؤال بكلّ تأكيد يعكس نسقاً ثقافياً مختلفاً كلياً عن النّسق الثقافي الذي رمم الآنية المكسورة ومنحها بُعداً جمالياً يفوق ما كانت عليه. فالحرفي الياباني يسعى إلى ما هو أبعد بكثير من تصليح آنية كُسرت، إنّه يقول ببساطة إنّ الحياة ليست يسيرة على الإنسان ولن ينجو شخص أيّاً كان من كسرٍ في حياته وفي نفسه، فهل يستسلم لهذه الصدمات ويرمي أجزاءه في سلة المهملات؟ أم يرمم هذه الأجزاء ويجعل من الندوب شكلاً جمالياً يفاخر به أمام الناس؟ يقول لهم انظروا ماذا فعلت بي الحياة وكيف تعاملتُ مع هذا الفعل. إنّه بالتّأكيد نسق ثقافي لم نعتد عليه في بلداننا العربية على الأقل، فلملمة الأجزاء وإعادة تجميعها ومنحها بُعداً جمالياً يقتضي بِدايةً معرفتنا العميقة بقيمة ذواتنا وممتلكاتنا، كما يتطلّب منّا ثقة عظيمة بالقدرة على الاستمرار، وهذان أمران لم يدخلا بعد في تركيبتنا الثقافية، فقد عُرف عنا حبنا الحسيّ الشديد لذواتنا، وتضخم الأنا بشكل مرضي جعلنا وعبر قرون خلت نُشوِّه كلّ جميل ينشأ بيننا حفاظاً على حضورنا المزيف في التّاريخ وحفاظاً على رموز هشة تافهة نظنُّ فيها العظمة.
إذا كانت الحقيقة الجمالية هي التّعبير الشّفاف عن القدرة اللامحدودة لدى البشر وتترجم الذائقة الفنية في إبداعات مختلفة تعكس عبقرية الإنسان فمهمة الأنظمة تشويه تلك الحقيقة، وإعدام العقول المفكرة، وفي حال استحالة ذلك تقوم بتشويه الحقائق وخلط الأوراق بحيث تستنفر مؤيديها للقيام بمهمة تحطيم تلك العقول والقضاء على وجودها.
لن أذهب بعيداً في التاريخ فالأمثلة كثيرة في واقعنا اليومي المعاش، فكم ساهمنا بتحطيم أشخاص كان من الممكن أن يسهموا بشكل فعّال في إزهار الربيع العربي، على المستوى الشعبي ضمن نسق النقد والحريّة واتباع سياسة التّخوين والاتهامات الجاهزة.. وعلى مستوى الأنظمة التي استطاعت تحطيم الركائز البشرية التي قامت عليها الثورات السّلمية عن طريق اعتقال الشباب الحر المفكّر الذي يستطيع إدارة وقيادة البلاد وقتل هؤلاء تحت التعذيب، ووضع بدائل غبية سهلة القياد وتجيد استخدام السلاح. كما حدث في بداية الثورة السورية حين قتل غياث مطر وأطلق سراح عصبة من قادة التنظيمات من صيدنايا.
كم انساقت قطعان بشرية خلف إعلام مفبرك يدعو إلى تحطيم هذه الآنية بل تمّ إدخال الكثير من الفيلة الهوجاء إلى متاحف الخزف التي نملكها أصلاً، وكم ساهمت هذه القطعان بالرقص على حطامها أو ببيع ما تبقى منها.
السؤال الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا اليوم عمّن كسّر آنية ميدان التّحرير في القاهرة، ونصّب قادة البلطجية حكاماً مخلّصين على أعظم شعب؟ وعمّن حطّم المتحف السوري وانقاد خلف ديمستورا الذي أعلن منذ أيام انتصار الأسد ودعا لإبقائه حاكماً مخلِّصاً على أنقاض المدن المدمرة؟
هؤلاء القادة صناعة الأنظمة الاستبدادية التي لمّعتهم وجمّلتهم وجعلت منهم قبلة لأنظار المريدين الذين يملكون استعداداً فطرياً للانسياق وراء البروباغندا الإعلامية المبهرة التي استطاعت في السنوات الأخيرة نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي أن تصنع عالماً خاصاً موازياً ومؤثراً إلى درجة جعله الحقيقة الواقعية التي لا يطالها الشكّ.
بالتأكيد الأنظمة العربية ليست وحدها من يصنع هؤلاء الرموز بل يقف خلفها نظام عالمي له مصالحه القوية التي يدافع عنها بإيجاد أراجوزات يجيدون تنفيذ ما يطلب منهم بدقة بل ويتجاوزونه.. وفي الوقت ذاته يملكون ذلك الحضور المزيف الذي يخدع الغالبية العظمى من الشّعب الغافل الملهي أصلاً بلقمة العيش.
وإذا أردنا الدّخول بالتّفاصيل الصّغيرة فالأمثلة أكثر من أن تحصى فتكريس التجهيل ضمن وزارات التربية وفي جامعاتنا هو شكل واضح من أشكال التّحطيم، في حين نرى أبناءنا عندما يوجدون في بيئات صحية تعمل على ترميم أخطائهم كيف يتفوقون ويحصدون الجوائز أو المراتب المتقدمة في كلّ الأصعدة. مما يؤكد أنّ تكريس حالة تعليمية محددة في وزاراتنا التربوية يكاد يكون مقصوداً من سلطات الاستبداد التي تشعر بالخطر على مكانتها عند أيّ تغيير إيجابي يطال النّسق الثقافي المعتاد، فإذا كانت الأهداف العامة المعلنة لأيّ مؤسسة تعليمية تتمحور بمجملها حول صناعة مواطن متعلّم قادر على مواجهة صعوبات الحياة ويمتلك القدرة على التّطوير والإنتاج فإنّ الأهداف العامة غير المعلنة تسير بالاتجاه المعاكس تماماً، حيث تعكس رغبة عارمة في إنتاج مواطن مسالم مثالي في الخضوع للأمر الواقع مستجيب لأوامر الخدمات المطلوبة قادر على التّصفيق والتّعييش والدّفاع عن الحاكم المستبد، ويملك الكثير من الدّوافع الغيبية التي تجعله يقدّم روحه فداء له وهو يظنُّ أنّه يدافع عن تراب الوطن.
ضمن هذا الإطار يبدو أنّ محاولة تغيير النّمط الثقافي السّائد أمراً مُلحاً وضرورة تاريخية قصوى إن كنّا بالفعل نفكّر جدياً في تطور هذه الأمة، وتغيير بنية التّشويه والهدم إلى بنية الترميم وإعادة التشكيل، تتطلب الكثير من المفاهيم التي لم نعتد عليها مثل تقدير الذات واحترام الآخر المختلف، واحترام المكونات المتباينة في المجتمع، والأهم من ذلك البحث عن الأفكار البنّاءة إن كانت عند العلماء وأصحاب الاختصاص أو كانت عند النخب الثقافية، أو عند بسطاء الناس، والعمل على هذه الأفكار لجعلها قابلة للتحقق والتطور، لكن العقبة الكبيرة التي يمكن أن تقف أمام هكذا حالة تبقى قائمة في السّلطة الاستبدادية التي لن تسمح بذلك على ما يبدو دون انتصار السيرورة الثورية للربيع العربي والذي يظنُّ الكثير من أغبياء التّاريخ أنّ هذا الربيع الزلزال قد توقف ولن تكون له أيّ ارتدادات.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
