هل جَنت إسبانيا بعض ما زرعت من آلام؟

غالبا ما يحشرنا صُنّاع الرّأي العام في أحد الموقفين من الحروب التي تخوضها الحكومات: إمّا مع أو ضدّ. ويطمسون مُتعمّدين أيّ مبادرة للتّساؤل عن طرف ثالث لا يخضع لهذه المواقف المُسطّرة. طرف يعتبر نفسه حليفا لجميع الأطراف المتناحرة، ليس حِيادا وإنّما تموقعًا تحكمه المصلحة، فتجده “يُعرب عن قلقه” من تفشّي الحروب قولا ويُؤجّج لهيبها بعقد صفقات السّلاح مع طرفي النّزاع. هي الدّول العظمى غالبا، لا تتهاون في التّعامل مع المُتعاطفين مع ضحايا الحروب والإرهاب باستهتار فاضح. فترى زعماءها يتصدّرون صفوف المظاهرات المُندّدة باكين على الضّحايا وفي الزّوايا يباركون صفقات تصدير أسلحةٍ تتفنّن بُلدانهم في إنتاجها. الملك الإسباني فيليب السّادس ورئيس حكومته راخوي كانا مِثالا حَيّا لهذه الأدوار المُزدوجة مُؤخّرا.
عندما زار ملك إسبانيا وثُلّة من رجال الأعمال في شهر يناير/ كانون الثاني من العام الجاري السّعودية وباركوا ثقة المملكة في المنتج الإسباني وخصوصا السّلاح (تضاعفت طلباتها عليه 30 مرة في السنوات الثلاثة الأخيرة)، اِنتفضت المعارضة الإسبانيّة واِنتقدتهم بشدّة حينها. ولكن النّقد لم يأخذ حظّه في المساحات الإعلامية باعتبار البلد لم يذق طعم الاستقرار السّياسي طوال سنة 2016. فقد أسفرت الانتخابات البلديّة ثمّ التشريعية الإسبانية عن مشهد مُعقّد عطّل بشكل كبير تشكيل الحكومة. وما إن قادت المُشاورات المُتوتّرة إلى إعادة تسمية ماريانو راخوي على مضض {زعيم الحزب الشعبي الحاكم} رئيسا للبلاد في 29 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2016 حتّى توضّحت خطوط خريطة التّحالفات بين الأحزاب وخريطة تحرّكات المُؤسّسة الملكيّة. ولئن واجه الحزب الشّعبي أصعب أزمة ثقة في تاريخه مع الشعب الإسباني وبقية مكونات المشهد السياسي، فإنّه مازال ينعم بالدّعم الظّاهر والخفيّ من المؤسسة الملكية باعتبار الوِدّ التاريخي بين الطرفين.
ولاستدراك الخُمول الدّبلوماسي والرّكود الاقتصادي الذي فرضه التّوتّر السياسي طوال سنة 2016، تجنّدت المُؤسّسة الملكيّة مُمثّلة في شخص الملك فيليب السادس ومُقرّبيه من أصحاب المال والأعمال لاِستدراك ما تأجل من تحرّكاته الخارجيّة طلبا للدّعم المالي بترويج المنتجات الإسبانية بكلّ أنواعها. ولا يخفى على أحد أنّ الخليج العربي يُعتبر قِبلة كل مُستثمر، فشهيّة الاستهلاك لا سقف لها، وكلّ أنواع البضائع مطلوبة، خصوصا لو كانت الحاجة لها مُستعجلة. تمّت الزّيارة بنجاح وقام الوفد بقطف عقود جديدة في مجال الصناعة والخدمات، وبتجديد عقود البيع فيما يخصّ المواد الحربية لتكون إسبانيا بذلك المُزوّد الثالث للسّعودية على مستوى العالم وما انفكّ نسق صادراتها يتصاعد منذ 2011 (اندلاع الربيع العربي)، بل تسارعت وتيرة الطّلب مع التخطيط لعاصفة الحزم ليُكلّف السعودية 900 مليون يورو، فقط من2014 حتى 2016.
أرقام جلبت لإسبانيا سُخط منظمات حقوق الإنسان التي هاجمت الحكومة الإسبانيّة مُندّدة بالتّجارة “القذرة” على حدّ تعبيرها لتعارضها مع الفصل 53/2007 من القانون الإسباني والذي يُجرّم بيع الأسلحة “للاستعمال الذي يُهدّد السّلم أو الاستقرار أو الأمان…وفي أيدي حكومات تغتصب حقوق الإنسان”. ولطالما ربطت منظمات حقوق الإنسان في الغرب اسم السّعودية تحديدا بصورة البلد الخارق لملفّ حقوق الإنسان بل والدّاعم للجماعات الإرهابية.
الواضح أنّ هذه المُنظّمات تجنّدت لتفضح الوجه القبيح “المُنافق” (على حدّ تعبيرها دائما) لسياسات ملك إسبانيا ورئيس حكومتها “ماريانو راخوي” على إثر حضورهما المظاهرة المهيبة في 18 من الشهر الماضي والتي اِنتظمت في برشلونة اِستنكارا للعمليّة الإرهابية الأخيرة. موجة النّقد أجّجت لهيب الصّراع الكتلاني الإسباني الأبدي وألّبت جانبا من الرّأي العام الحاضر ورُفعت لافتات كان أبلغها “دموع على الضّحايا، وسلاح للقتلة” في إشارة إلى أنّ “مملكة ما” (صديقة الملك والحزب الحاكم) هي من تحتضن الفكر الإرهابي حسب القناعة المُتفشّية في المجتمع الغربي. وما مواصلة الودّ العريق مع حُكّامها تحت ذريعة المصالح الاقتصادية إلّا مُنتهى النّفاق. ولا يفوتنا أن نشير أنّ هذه الاتهامات المباشرة للمؤسسة الملكية والحزب الحاكم ما انفكت تتأجّج أكثر من طرف الكتلانيّين مع اقتراب موعد التّصويت على اِستقلال إقليمهم عن إسبانيا.
و تماهيا مع ازدياد وتيرة التّراشق بالاتّهامات، شنّت بعض الأطراف السّياسية الكتلانية هجوما صريحا على حضور الملك ورئيس الحكومة في المظاهرة، لكن سرعان ما جاءها الرّد الإعلامي عاصفا من مدريد مُذكّرا الكتلانيين بأنّ الانزعاج وربّما التبرّؤ من عائدات اِرتفاع صادرات المواد الحربية للمملكة السّعودية خالٍ من المصداقية لأن كتالونيا وحدها تُنتج ثلاثة أضعاف ما تنتجه مقاطعة مدريد في هذا المجال الصناعي، و أنّه لا بأس من الاعتراف أيضا بأنّ تعافي الاقتصاد الإسباني منذ 2013 كان بفضل الأرقام القياسية التي سجّلها قطاع الصناعات الحربية و القطاع السياحي الذي انتعش نتيجة الاالتفاف على نصيب بلدان جنوب المتوسّط من السّياحة الأوربية بعد اِندلاع ثورات الرّبيع العربي.
مواقف سياسيّة مُحبِطة تُؤكّد أن الحُزن والتّوتر اللّذان اِجتاحا مزاج الإسبانيّين على إثر العملية الإرهابية التي خلّفت 15 قتيلا وأكثر من 120 جريحا الشّهر الماضي في برشلونة، اِشتدّا مع مواجهة حقيقة الأرقام المُفزعة التي تفضح اِنتماء بلدهم لقائمة الدّول “الكُبرى” المُتكالبة على إنتاج الأسلحة ومساهمتها من بعيد أو من قريب في تغذية الخلافات أو ربما حتى في اِندلاع الحروب.
وبالتّالي فإن الألم والرّعب الذي عاشوه أثناء العمليّة الإرهابية الأخيرة وبعدها لا يضاهي لحظة من فواجع التقتيل الجماعي اليوميّ لأبرياء يموتون في أماكن أخرى من الأرض ويكتوون إلى اليوم بنيران القنابل والأسلحة التي تحمل إمضاء “صًنع في إسبانيا”.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
