قابلية الخارطة العربية لمزيد من التقسيم

قضية انفصال أي إقليم عن الدولة الأم، سواء كانت موحدة، أو فيدرالية، وتأسيس دولة مستقلة، هو باب حقيقي للجحيم، هذا الباب لو انفتح على مصراعيه فإن حدود الدول على خارطة العالم التي نعرفها اليوم ستتغير بشكل كبير، لتنشأ عشرات الدول الجديدة، وتتغير الحدود، وتزدحم الخارطة العالمية، وسيكون هناك حاجة إلى مقر آخر لمبنى الأمم المتحدة أكبر وأوسع من الحالي في نيويورك وكذلك مبناها في جنيف، لاستيعاب مندوبي الدول، أو الدويلات المستحدثة.

الحدود الاستعمارية

كثير من الحدود الحالية التي شكلت الكيان الترابي للدول الحديثة بعد استقلالها وضعتها القوى الاستعمارية الكبرى فيما بينها خلال احتلالها لمساحات شاسعة من بلدان العالم الضعيفة التي كانت مسلوبة الإرادة.

والحدود الحالية لعدد من الدول العربية رسمها الاستعمار البريطاني والفرنسي، فقد آلت إليهما الأراضي التي كانت خاضعة للدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، والمصطلح الرائج للخارطة العربية أنها تُنسب لـ “سايكس – بيكو”، وهما الوزيران البريطاني والفرنسي اللذان صمما وهندسا تلك الحدود، ويدور حديث متزايد منذ سنوات عن خارطة جديدة لشرق أوسط جديد يتم فيه تقسيم المقسم، وتُوظف مصطلحات منسوبة لباحثين ومفكرين وساسة أمريكيين من نوع نشر الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، لإنزال الرعب في قلوب شعوب المنطقة، وإقناعها بوجود مؤامرة خارجية لإسقاط بلدانهم، وتفتيتها إلى كيانات متعددة، ولا ندري مدى دقة ومصداقية كل ما يُشاع عن نظرية المؤامرة تلك؟، لكن ما نعيشه واقعا أن هدفا أساسيا لتعظيم هذه المخاوف هو تكريس واقع النظام الرسمي في المنطقة العربية قلب الشرق الأوسط، وهو نظام يقوم على حكم المستبد المتحصن بقوة السلطة في قمع وإخضاع الشعوب، هذا النظام لم يكن ديمقراطيا أبدا منذ نشأة الحكم الوطني بعد الاستقلال وظهور الدولة الحديثة بحدودها الحالية، ورغم الربيع العربي، وهو قفزة تحررية للشعوب، إلا أن النظام الرسمي القديم نجح في الالتفاف عليه، وهو الآن في طور التأسيس لمرحلة جديدة من الاستبداد أشد مما سبقها.

حالة الاستبداد المتوطنة، وما نتج عنها طوال عقود من انغلاق ومظالم ومفاسد، ومع إخفاق الثورات في إحداث تغيير إيجابي في منظومة التفكير والحكم، هو ما يعرض كيانات الدول للتهديد، ويمنح نوازع الانفصال دفعا للأمام، ويريح الخارج فلا يجعله بحاجة لبذل الجهد لتنفيذ رغباته في التقسيم – لو كانت حقيقية – حيث توفر السلطوية الأمنية البيئة والأسباب الداخلية للتمرد على كيان الدولة من جانب المكونات المقهورة التي ترغب في الخلاص ولو بالانسلاخ عن الوطن.

للمرة الثانية

نحن حاليا أمام عملية انفصال واستقلال نهائي تحدث للمرة الثانية على الخارطة العربية، الأولى في جنوب السودان، واليوم في إقليم كردستان العراق، موعد الاستفتاء الذي قررته الإدارة السياسية للإقليم 25 سبتمبر الجاري، والاستفتاء ترفضه الحكومة المركزية في بغداد، ودول الجوار: تركيا وسوريا وإيران التي تحتضن مكونات كردية، وتخشى من نزعات استقلالية لديها أيضا، استقلال كردستان أمر واقع، وسواء جرى الاستفتاء كما هو مقرر بعد أيام، أم تم تأجيله، أو عرقلته، فإن إعلان الدولة الكردية الأولى سيكون مسألة وقت، والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة لا تمانع في ذلك، هي فقط تتحفظ على الوقت، تدعو للتريث قليلا لحين الانتهاء من القضاء على تنظيم داعش في العراق وسوريا.

نزعة الانفصال لا تنشأ اعتباطا، لها أسباب مفصلية، سياسية واقتصادية وعرقية وقومية ودينية وطائفية وثقافية، ليس لدى القومية الكردية فقط، بل لدى كل إقليم وتجمع بشري يسعى للاستقلال في أي مكان بالعالم، إذ بالتزامن مع استفتاء كردستان، هناك استفتاء آخر يجري التجهيز له حاليا في إقليم كتالونيا في إسبانيا بأوربا، وتحدد موعده مطلع أكتوبر القادم، وهو يُواجه بالرفض البات من الحكومة في مدريد، ولا يلقى دعما خارجيا، فلا دولة تريد تعريض إقليمها للتفكك، لأن سلخ جزء منها سيدفع أجزاء أخرى للانسلاخ، واستقلال كردستان سيغري أكثر على التقسيم الثلاثي للعراق: دولة شيعية، وأخرى سنية، بعد الدولة الكردية، وهذا الطرح متداول منذ الغزو الأمريكي عام 2003 كحل أخير للخلاص من معضلات تفاقمت بعد الاحتلال أكثر مما كانت عليه خلال عهد صدام، وفي إسبانيا فإن استقلال كتالونيا سيجدد رغبة إقليم الباسك في استئناف معركة الانفصال بعد أن وضعت منظمة “إيتا” السلاح، وتخلت عن العنف منذ سنوات، وسيلحق بهما إقليم ثالث اسمه نافارا، وقد تتحلل المملكة الإسبانية إلى 17 دويلة بعدد أقاليمها الـ 17.

عاصفة الاستقلال إذا ضربت أي دولة فلن تبقي عليها أو تذر، الولايات المتحدة المشكلة من 50 ولاية يمكن أن تصبح 50 دولة، وتفقد وحدتها وهي مصدر قوتها وعظمتها، هناك انفصاليون منظمون في عدد من ولاياتها يطالبون بالاستقلال أعلاهم صوتا في كاليفورنيا، ثم تكساس وبورتريكو، وولايات الجنوب تاريخيا كانت ضد الوحدة مع الشمال، لكنها تمت بقوة السلاح خلال حرب أهلية ذهب ضحيتها ملايين، وسبب معركة تشارلزفيل مؤخرا بين القوميين البيض والمناوئين لهم، هو قرار المدينة بإزالة تمثال لأحد قادة الانفصال من حديقة عامة، أصحاب النزعة القومية المتطرفة، انتفضوا دفاعا عما يعتبرونه اليوم زعيما وطنيا تاريخيا رغم أنه هُزم في حرب الوحدة، نزعة الانفصال والحنين إليه تظل كامنة ولا تزول.

ورغبة الاستقلال تتنازع اسكتلندا، وإذا كان استفتاء 2014 لم تتوفر له الأغلبية فإن حكومة هذه الدولة التي تشكل جزءا من المملكة المتحدة دعت بعد البريكست لاستفتاء جديد، وقد تسير أيرلندا الشمالية وويلز على نفس الطريق ليبقى فقط من الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لم تكن تغيب عنها الشمس يوما قطعة أرض صغيرة اسمها إنجلترا ليتقلص تأثيرها ونفوذها الأوربي والدولي.

الاقتتال المدمر

والحالة السورية واليمينة والليبية الراهنة سمتها الاقتتال المدمر المفتت لكيان الدولة الموحدة، بجانب سيطرة أمراض الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية والعصبية الاجتماعية على مكوناتها، وهذا ناتج عن ديكتاتورية الحكم التي غيبت إرادة الشعوب في رسم حياتها، وتقدير خصوصياتها، وذلك يمثل مناخا مواتيا ليكون الحل في التقسيم إلى كيانات منغلقة على ذاتها، والأمر نفسه في لبنان المتماسك بشعرة رفيعة من التعايش الهش، وإذا نظرنا الى مجمل الخريطة العربية سنجد أن هواجس التفكيك في عدد معتبر من بلدانها أكثر عوامل الوحدة.

السودان كان أول بلد عربي ينسلخ منه جزء نشأت عليه دولة جديدة عام 2011- جنوب السودان – لتتغير خارطة “سايكس بيكو” لأول مرة منذ تم تصميمها، وفي الصومال حدث التفكك لأسباب داخلية بعد زوال الديكتاتور، ومن الخبرة العالمية فإنه بعد رحيل الديكتاتور، أو ضعف قبضة النظام الحديدي، تظهر الأمراض السياسية والاجتماعية، وتحدث الفوضى، ويسود التفكك خصوصا في الدول أو الكيانات الاتحادية التي تشكلت بالضم أو بالقوة، وهذا جرى في الاتحاد السوفيتي، والاتحاد اليوغسلافي، والخبرة أيضا تقول إن الديمقراطية تعصم بلدانها من هذا المصير المؤلم، أو على الأقل تمثل حلا سحريا في إزالة التناقضات المانعة للتفكك، فقد انتهى الاتحاد السوفيتي، وبقيت أمريكا رغم أنها دولة اتحادية أيضا، كما تبقى بلدان أوربا متماسكة رغم دعوات انفصالية تسود أكثر من بلد فيها، وهذا عائد إلى رسوخ قيم الحرية وسيادة الحقوق والعدالة والمساوة بين مكونات المجتمع، وعدم حرمان الجماعات السكانية من خصوصياتها وهوياتها الثقافية والتاريخية، وهذه الوصفة المحققة للوحدة الوطنية مفتقدة في بلدان الشرق الأوسط، وهي سيف التفتيت المسلط على رقابها.

مبررات أخرى

أسباب رغبة الكتالونيين في الانفصال لا ترجع إلى غياب الحكم الديمقراطي، إسبانيا دولة ديمقراطية، وكتالونيا يتمتع بحكم ذاتي، إنما المبررات اقتصادية وخدمية وتنموية وحنين تاريخي للجذور، فقد كان الإقليم مملكة مستقلة يوما ما وتم ضمها بالقوة لمملكة إسبانيا، وهذه أسباب لا تكفي للانفصال وإحداث هزة عنيفة في دولة موحدة، وضع كتالونيا ليس مثل جنوب السودان، أو كردستان العراق، ولذلك مآل مثل هذا الاستفتاء، وأي حالة مماثلة في أقاليم أوربية إلى التسوية مع الحكومات المركزية، عدم وجود حاضنة من مكونات المجتمع، أو رضا الأحزاب الكبرى، والحكومات، والبرلمانات العامة يجعل دعوات الاستفتاء صعبة التنفيذ، هي أقرب لصرخات احتجاج محلية لتحسين الأوضاع منها إلى الاستقلال الحقيقي، والعلاج يكون عبر مزيد من الحكم الذاتي، لكن المعضلة في  البلدان المحكومة بالحديد والنار والتي يتفشى فيها الظلم والفقر وتردي الخدمات وحدوث التمييز القومي أو العرقي أو الديني أو الثقافي، أو كلها معا، وهذه الأمراض تضرب أكثر من دولة عربية في صميمها، ولو تغيرت السياسة جذريا، ونشأ نظام حكم منبعه الإرادة الشعبية، فإن النزعات الاستقلالية ستتراجع.

الدولة الموحدة، والدولة الفيدرالية الديمقراطية، هي الأكثر أمانا لمكوناتها الوطنية مهما كان التنوع في داخلها، فهذا التنوع ثراء لها، الولايات المتحدة كدولة غنية متقدمة، والهند كدولة نامية تجتهد للتقدم تقدمان نموذجا للنجاح في الاندماج، أما الدولة التي تسعى للنقاء العرقي أو القومي أو الديني أو الطائفي فإنها تفقد غنى التنوع والتعدد الإنساني، والانسلاخ والتأسيس لدول جديدة يتوفر لها عنصر النقاء لا يكون بالضرورة سببا لنجاحها، الاتحاد اليوغسلافي تفكك لسبع دول لا أثر لأي منها في أوربا والعالم، جنوب السودان صار دولة فاشلة في وقت قياسي، لا أحد يسمع عن تيمور الشرقية شيئا، وإندونيسيا التي انفصلت عنها تلك الجزيرة تحسنت أوضاعها، وشبه جزيرة القرم انسلخت وانضمت لروسيا لتصير إقليما تابعا في دولة قمعية، بينما وجودها في أوكرانيا كان سيجعلها رقما في صناعة القرار فيها.

الاستقلال قد يكون أحيانا مثل الكي آخر العلاج، لكنه لا يقيم دولا حقيقية، وكردستان العراق يعاني من أزمات داخلية طاحنة على كل المستويات، ولو صار دولة، فإن الفشل سيكون حليفها، وقد تشتعل فيها صراعات أهلية، ودول الجوار ستفرض سياجا من الوصاية والرقابة عليها حفاظا على وحدة أراضيها من تفشي نوازع انفصالية لدى مكوناتها الكردية،، العراق الديمقراطي بقومياته وأديانه وطوائفه ومذاهبه يفرض نفسه كدولة أساسية في الإقليم، وتفتته إلى دويلات يجعله تابعا وموزع الولاءات على الخارج، وكذلك في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والصحراء الغربية، والصومال الذي صار عنوانه الإرهاب والفقر منذ تقسيمه.

أزمة الدولة العربية الحديثة أنها لم تكن لكل مواطنيها، الأقليات تعاني، والأكثريات أيضا، ترسيخ مبدأ المواطنة، والحكم الديمقراطي الرشيد، يظل الحل الأمثل لتوطيد أركان الدولة، واندماج كل مكونات المجتمع فيها وصد موجة ورغبة وقابلية للتقسيم.

    

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان