جحا التركى

إنه “نصر الدين خوجة”، تلك الشخصية الكاريكاتورية الشهيرة التى يستعير منها العامة كثير من الحكم والحكايات والنوادر والعظات الأخلاقية منذ عقود طويلة خلت.
الجدل الدائر حتى اليوم حول ماهية الرجل، وهل هو شخصية حقيقية عاشت فعلا بين الناس، وكان لها من الحكمة والحصافة وسرعة البديهة ما ساعدها على إطلاق كل تلك القصص والحكم والأمثال؟، أم أنه شخصية أسطورية أخترعها البعض فى ظل ظروف سياسية صعبة، ووضعوا على لسانها هذا الأنتاج الغزير من العظات الأنسانية والأنتقادات اللاذعة لمجريات الأمور السياسية فى عصرهم وللقائمين عليها من سلاطين وأمراء ووزراء؟، وإن كان هذا الجدل لم يؤثر مطلقا فى شعبية جحا أو “نصرالدين خوجة”، تلك الشخصية المحبوبة من الكبار والصغار.
المؤيدون لكون “نصر الدين خوجة” شخصية حقيقية، يؤكدون أنه عاش فى تركيا وأنه الأساس أو الأصل الذى استمدت منه باقى شعوب العالم شخصيتهم الكاريكاتورية الخاصة ببيئتهم السياسية والأجتماعية المنتقدة والواعظة فى ذات الوقت ، ويبرهنون على ذلك بإن جحا التركى أو “نصر الدين خوجة” الرومى رجل تركى الأصل ولد فى قرية صغيرة تسمى خورتو عام 605 هجرية بالقرب من غربى مدينة أنقرة وتوفى عام 683 هجرية حيث دفن فى مقبرة مدينة آق شهر الكبرى ، ولاتزال هناك مقبره بإسمه إلى الآن ، ودرس العلوم الدينية وأعتلى منصة القضاء، وتولى مهمة الخطابة ، كما عمل مدرسا ومعلما وإماما .
وتشهد له كتب التاريخ أنه كان رجلا صالحا عفيفا زاهدا، يحرث الأرض، ويحتطب لنفسه بيديه، كما كان واعظا ومرشدا ذي قوة وجراءة، لا يهاب في الحق لومة لائم، ولايستحى قوله فى وجود الأمراء والحكام، أما عن زمنه فمن المرجح أنه كان فى عصر السلطان أورخان أى أوائل القرن السابع للهجرة، وتوفى وعمرة حوالي الستين عاما.
ولفظ “خوجة” فى التركية يعنى ” المعلم “، وهو لفظ يدل على عمق الأحترام والتقدير لمن ينادى به، ويقال إنه كان من كبار علماء الفقه، وأن تلاميذه أحبوه وأقبلوا على دروسه بشغف وحب شديدين لأنه كان يخلط الموعظة بالنوادر والنكات اللطيفة، وأنهم من أطلق عليه لقب “خوجة”.
وتصوره الرسومات الكاريكاتورية فى صورة شيخ كبير السن، ممتلئ الجسم، ذو لحية بيضاء كبيرة، يرتدى على الدوام عمامة بيضاء لاتقل ضخامة عن جسمه ولحيته، ويجلس على حماره بالمقلوب فاتحا ساقيه في الهواء.
أشتهر “نصر الدين خوجة” – مثله في ذلك مثل جحا العربى – بأنه كان بطل الفكاهة الأسطوري الذي أغرق العالم في حكمته الممزوجه بخفة الدم التي لا ينافسه فيها أحد أطلاقا.
ويعد “نصر الدين خوجة” أحد أهم أبطال الهزلية الشعبية في عالم الأدب، تروى عنه ألاف القصص والحكايات، ناهيك عن عدد لاحصر له من الفكاهات المضحكة التى لاتزال تسلى الناس وتبهجهم وترسم البسمة على وجوههم.
أما من يعتقدون أنه شخصية أسطورية ليس لها وجود حقيقي، وأنه من إنتاج الذاكرة الشعبية التي لا تنضب ـ والذي سرعان ما تحول إلى أسطورة متوارثه عبر الأجيال، فدليلهم على ذلك هذا الأنتاج الغزير الذي خلفته وراءها تلك الشخصية، والذي من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على شخص بمفرده أن يبدعه فى هذه الفترة القصيرة من حياته.
ويبدو أن فكرة وجود شخصية ذات مواصفات كاريكاتورية مضحكة في الأدب الشعبي، لتوظيفها في نقد الحكام والسخرية من ظلمهم وسوء إدارتهم للبلاد والعباد، وطغيان بطانتهم، استهوت الأمم الأخرى، حيث نجد شبيه “نصر الدين خوجة” موجودا بقوة فى التراث الشعبى فى إيران، ويوغسلافيا، وأرمينيا، واليونان، وباكستان، والهند وغيرهم من الأمم إلى جانب جحا العربي بطبيعة الحال.
ونظرا للأهمية الشعبية والتاريخية لشخصية “نصر الدين خوجة” فى الموروث الثقافي الشعبي التركي، ومع التقدم التكنولوجي الهائل الذي يعيشه العالم اليوم، لم يتخل الأتراك عن “نصر الدين خوجة”، ولا عن قصصه وطرائقه، بل قاموا بتوظيف شخصيته وحكاياته ونوادره فى تعليم الصغار، وتهذيب سلوكياتهم عن طريق القصص الطريفة التى تبعث فى نفوسهم البهجة والسرور، وفى نفس الوقت تعلمهم وتعظهم بطريقة سهلة وبسيطة.
ولذلك الهدف تتم طباعة كتب ملونة يقرأوها الأطفال خلال المراحل التعليمية الأولى، كما تم أنتاج بعض الأفلام الكرتونية التى تحكى قصصا ونوادر لجحا حيث تعرض فى الأندية الثقافية التي يرتادها الأطفال، إلى جانب عدد من المسرحيات الموسيقية والغنائية المستوحاة من أنتاج جحا والتى تقدم للأطفال تحقيقا لنفس الغرض.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
