مهمة الأمة الوسط في عصور الانحطاط الحضاري

 

إنها مرحلة شديدة التعقيد تلك التي تمر بها الأمة الإسلامية اليوم من حيث التداخل النفسي والسلوكي على المجتمعات والأفراد، ومن حيث تغيير منظومة المفاهيم والقيم داخليا والنظرة إلى الآخر خارجيا، وأصبحت كل القيم مستهدفة لفكرة إعادة النظر والمناقشة بما فيها ثوابت الإسلام ذاته

تجسدت كل الأفكار التي تظهر علي السطح في أوقات ضعف الأمم وانحطاطها الحضاري والانسلاخ من هويتها في هيئة ثقافة عامة تشكل وعي الأمة وسلوكها وحركتها وهيئتها العامة، فنجد من يحيي ويذكي الخلافات المذهبية والفكرية ليتحول الخلاف المجرد إلي قيمة وفكرة يقسم من خلالها المجتمع الواحد وتقام بسببها الحروب ويقيم من خلالها انتماء الفرد مع أو ضد ، ولا يتوقف الأمر عند ذلك ، بل تختلط النظرة إلي النص القرآني أو صحيح السنة بالنظرة إلي التراث فتنزع المقاصد من النصوص ويحكم الجمود الفكر السائد وتتنازع الأطراف حد التقاتل والتكفير والانحراف الفكري في الوقت الذي لا يمثل فيه أي طرف الفكرة الإسلامية الصحيحة والمستوحاة من روح النص كما أنزل علي نبي الإسلام في فجر الرسالة ، فتضيع رسالة الأمة ومهمتها في بحر من الخلافات السطحية فتتفرق وتتشتت كما هو حادث اليوم ونبحث له عن مخرج ينقذ أمتنا من السقوط إلي هاوية الاستبدال

ومهمة الأمة حددها الله عز وجل في كتابه في سورة البقرة بقوله تعالي ” وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا “

الأمة المختارة

والأمة في أحد تعريفاتها هي جماعة من الناس يجمعها عقيدة أو أصل أو مكان

والخطاب في الآية موجه للأمة المختارة للتكليف وحمل مسئولية ” الشهادة ” واستكمال طريق الأنبياء وحمل الرسالة الخاتمة، فـ “الأمة” هنا تعبير مرتبط مصيريا بالدين، بقدر ما تحمل منه فهي تنتمي إليه تمثيلا ودعوة وحركة وعملا، وبقدر ما تترك وتهمل فهي بعيدة عن المفهوم القرآني لمعني “الأمة” المقصود والمتسم بالوسطية

والأمة الوسط هي كل الأمة من بداية المسلم الأول وحتى قيام الساعة طالما اعتقدت هذا الدين وانتهجت شريعته، والوسط من كل شئ أعدله وأفضله ، والعدالة والفضل ليسا منحة إلهية يهبها الله بدون عمل لخلق من عباده ، وإلا لاستدامت في يد بني إسرائيل الذين فضلهم الله علي العالمين ، ثم استبدلهم بما بدلوا ونزعت عنهم الخيرية لتنتقل لأمة خاتم الأنبياء ليس محاباة ، وإنما بالعمل والبذل وتحقيق الشرط الذي حدده الله سبحانه ولم تحدده الأمة بهوى طارئ أو مصلحة عارضة ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ “

فالخيرية شرط الشهادة ، الخيرية التي مقتضاها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، أي تقديم الخير للناس ( كل الناس ) وليس فقط المؤمنون منهم ، وهذا ما لم يفهمه الغرب عن الإسلام بعد ، وهذا ما عجز المسلمون اليوم عن مخاطبة هذا الغرب به لأنه هو ذاته يعجز عن فهم رسالته وشرط خيريته ومناط تكليفه،  فالشهادة علي الأمم إذن ليست سلطة مخولة للأمة تجلد بها ظهور الآخرين ، وليست نوعا من الصراع الحضاري كالصراع الدائر اليوم بين الحضارة الغربية التي كادت أن تهلك الإنسانية بإغفالها الجانب الروحي وأدخلته حتى في صراع مع ذاته

قمة التضاد

فالمشهد العالمي اليوم يحوي صورتين في قمة التضاد:

الحضارة الغربية (الآخر) بكل ما تمثله من قوة مادية واقتصادية وسياسية مع تدهور شديد في الجانب الروحي والأخلاقي وافتقاد حد الفقر في السعادة التي يبحث عنها الغرب ولم يصل إليها بكل ما أوتي حتى الآن ولم يزدد عنه إلا بعدا، مع نظرة استعلاء ودونية للآخر (المسلمون) نظرا للنموذج السيئ الذي يقدمونه للعالم عن دينهم وحضارتهم وتاريخهم

الأمة الإسلامية بما تحمله من مظاهر التخلف والانبطاح والفقر والفوضى والبدائية والتناحر ، والمفارقة أنها تملك المنهج الشامل الذي يحمل بين سطوره الحل الكامل والعادل لمشكلة البشرية غير أنها تغفل عما تحمله من منهج وما يجب عليها فعله للخروج من أزمتها الحضارية الطارئة ، مع نظرة انبهار للغرب الذي كسر كل حلقات الدين ودخل في عداء مع الكنيسة حتى تحرر منها وقد كانت قيدا وحائلا بينها وبين انطلاقته ، مع محاولة تقليده في نبذ الدين مع اختلاف الظروف التي دفعت الغرب لمعاداة كنيسته مع الظروف الدين الذي حول أمة من رعاة الغنم إلي أمة حضارة في سنوات معدودة .

لتتضح الإشكالية في كلمات محددة وهي : كيف تغرس في المسلم قيم دينه ليكون، ليحقق حيثيات خيريته فيستحق بذلك مهمة الشهادة والريادة العالمية ، ليس ليهيمن علي الآخر وإنما ليتم مهمة نبيه في نشر رسالته إنقاذا للبشرية من الهلاك في وقت تفتقر فيه لذلك المنهج السماوي ويقف المسلم ذاته حائلا بينها وبينه بتقصيره في الفهم والحركة والعمل به ، وتلك الإشكالية لا يستطيع أن يقوم بها فرد ، أو جماعة ، أو حتي هيئة متخصصة في مجال ما ، وإنما ولأنها مشكلة مركبة فيجب أن يناقشها علماء فقه وسياسيون واقتصاديون وفنانون وأدباء وعلماء تاريخ ولغويون من كل بلاد المسلمين ، ليس هذا فقط ، بل يجب أن يشارك العقلاء من الغرب والباحثون عن مخرج ينقذ البشرية من أن تضع نهايتها بيدها ، ولن يستطيع هؤلاء أن يقدموا رسالتهم كاملة إلا إذا فقهوها هم أنفسهم بشكل جذري وعميق كما أنزلت من السماء وذلك باستلهام روح النص بما يناسب العصر وعدم الوقوف علي المعاني التي فسرت في أزمنة أخرى لا تشبه بحال ما نحن عليه اليوم ، بل ويجب عليهم أن يفقهوا جيدا أصل الإشكالية وأنها ليست وليدة اليوم ، وإنما هى متجذرة في التاريخ حين توقف الاجتهاد والتجديد ووقعت الأمة في براثن الاستبداد والتخلف .

يجب على من يتصدى لتلك المهمة الخطيرة والحيوية أن يصرف عنها عقليتان تمثلان حالة تدير الحاضر العربي والإسلامي سواء على المستوي الرسمي كأنظمة، أو على المستوي الشعبي كمنظمات وجماعات وهي عقلية الإقصاء التي لا تقبل للآخر رأيا أو حتى وجودا، وعقلية الانبهار التي لا تملك فكرة وتستورد كل صغيرة وكبيرة وتقلد دون وعي، وحين ننتهي لعقل انتقائي يستند لروح النص القرآني وصحيح السنة المطهرة وقتها فقط يمكن أن يخرج خطاب يلائم الجميع وينقذ ما يمكن إنقاذه إسلاميا وعالميا.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان