لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً

(1)
ضغط على منتصف نظارته بسبابته، وهو يواصل الهجوم على الشرق بغطرسة لغوية تتمظهر بالعلم العميق، مؤكداً أن الاستبداد “صناعة شرقية”، ولما قطع شوطاً طويلاً في إثبات رأيه بأدلة تاريخية وأحكام قاطعة، سألته: هل تعتقد حقاً أن الاستبداد قدرٌ شرقي أم أنه بنظرة أخرى جريمة غربية ارتكبها ضد الشرق؟
عاد إلى تقديم الأدلة على طبيعة الاستبداد في بنية وثقافة المجتمعات الشرقية كاملة، وليس في مستوى السلطة وفقط، فسألته:
لكن يا ترى من الذي جعل الشرق شرقاً؟
سعل المؤرخ المتعالي عدة مرات، وتراجعت لغته القطعية باتجاه النقاش الهاديء، فالسؤال “الأصولي” كشف خدعة اصطلاح “الاستبداد الشرقي”، انطلاقاً من كون العالم “أصل واحد” طرأت عليه تغييرات تاريخية وجغرافية، ما يجعل الحديث الموضوعي يبحث في هذه التغييرات قبل أن يتهم الشرق باعتباره “نمط خاص” منفصل عن تاريخ الإنسانية.
(2)
هل لدينا استبداد في الشرق؟
نعم.. لدينا استبداد شديد ومتمكن، لكن الغرب أيضا ضليع في الاستبداد، ولعل أشهر الطغاة في الأدب والتاريخ وصلوا إلينا من الغرب، ولعلكم تذكرون كاليجولا ونيرون وهتلر وسالازار وفرانكو وغيرهم، وبرغم الطور الديموقراطي الذي انتقلت إليه أوربا بعد انتهاء العصور الوسطى وتأسيس مفهوم الدولة الحديثة، فإن الاستبداد القديم لم ينته، لكنه تطور وتلون، واتخذ صورا وأشكالا جديدة، لعل أخطرها هو الحملات الاستعمارية التي نقلت فعل الاستبداد من ممالكهم وبلدانهم إلى أنحاء العالم، فصار الاستبداد الغربي “سلعة للتصدير” و”حالة كونية” سمحت للمستبد المتقدم أن يستنزف أطراف العالم، ويحتكر السلطة والثروة في معظم بقاع الأرض، ويجعل من شعوبها وثقافاتها مجرد موضوعات للبحث والدراسة والتصنيف، باعتبار أن “المتقدم” يجب أن يعيد صياغة “المتخلف” ويسعى لتأهيله وتطويره ليتلاءم مع شروط الحياة العصرية الحديثة.
 
(3)
هكذا تحول الغرب (بقوة الهيمنة) من معتدٍ مستبد إلى “رسول للحضارة والتنوير”، وهكذا اختار الغرب لحملات النهب والقتل والاستيلاء على مقدرات الشعوب اسم “الاستعمار”، وهو مصطلح إيجابي مضلل يوحي بأن العالم ليس إلا “خرابات” مجهولة وقاحلة يجب على “المتقدم” تعميرها وتأهيل سكانها لحياة أفضل حسب المواصفات والمعايير التي يحددها هو.!، وهكذا نطق الهنود الإنجليزية الركيكة، وتعلم أبناء القبائل الأفريقية ارتداء البنطال والقبعة، كما تعلموا عددا من اللغات الأوربية بحسب لغة المستعمر الذي اقتحم حياتهم وسعى إلى تنميطهم واستلابهم، حتى صارت هناك مستعمرات دائمة للأنجلوفون، وأخرى للفرانكوفون، كما كان لدول مثل هولندا والبرتغال وغيرهما نفوذ في بعض المناطق في أعقاب الكشوف الجغرافية وتكالب التجار على دول البهار، ومن بعده بقية الموارد والخامات، بل والبشر الذين جعلهم الغرب سلعا في تجارة واسعة للعبودية، يبدو تاريخها مدوناً بوضوح على وجه الرئيس الأمريكي شخصيا!
 
(4)
الشرق إذن أصبح شرقا، لأن الغرب سعى إلى ذلك، واجتهد في تكريس هذا المصطلح بأساليب شتى، بدأت بتفسيرات أرسطو العنصرية لإثبات التميز والتفوق على “الآخر الشرقي”، فالمصريون عبيد للفرعون، رفعوا حكامهم إلى مرتبة الآلهة، وهكذا البابليون والأشوريون والفرس، وشعوب الصين التي تتلذذ بالخضوع التام للأباطرة والحكام!، ولم تنبع تفسيرات أرسطو من فراغ، فقد سبقتها نظرة تمايز عنصرية تجاه الآخر حتى داخل ممالك اليونان نفسها، ولم تتوقف عند الرؤى الفلسفية والنظرة الأخلاقية وشهوة تصنيف الآخر، بل وصلت إلى حملات تجارية وعسكرية، رافقتها دراسات ثقافية وأنثربولوجية هائلة حملت اسم “الاستشراق” لتقنع الشرق أنه “شرق”، وتأسره في “نمط”، وتحدد له “شخصية قومية” رسم ملامحها علماء الغرب بما يخدم تصورات دولهم الناهبة الحالبة.. تلك الدول الاستعمارية ادعت تنازلها عن الاستبداد، وارتقائها لمفاهيم الديموقراطية وتداول السلطة الاختياري، والتوسع في منح الأفراد حريات وحقوق متنوعة باعتبار أن المواطن الفرد هو صاحب الحق وليس الحاكم، لكن هذا الإدعاء كان واحداً من الخدع التي “فبركها” المستبدون الجدد ليبدأوا مرحلة تصدير بضاعة الاستبداد خارج الحدود.
 
(5)
وكما كان “الصليب” ذريعة للمستبد الأوربي القديم، ظهرت ذرائع متعددة تواكب أهداف التجار العابرين للحدود في العصور الجديدة، وتم استخدام أفكار هيغل ومونتسكيو ونظرية ماركس وإنجلز عن “نمط الإنتاج الآسيوي” كمحاولة لإثبات أن الشرق من “طينة” مختلفة عن الغرب، وهو ما بدا واضحا في قصية الشاعر الاستعماري البريطاني رديارد كيبنغ “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيان”، فقد توسعت الدراسات الأنثربولوجية والحفريات الثقافية والسلوكية التي وصلت إلى درجة توصيف شعوب الشرق بأنها مجموعات من “العبيد بالفطرة” مجبولة على الطاعة وعدم التفكير، تتوق دوما لحاكم مطلق تتلقى منه الأوامر وترتاح لرضاه، وبالتالي فإن هذه الشعوب الخانعة هي التي جعلت من حكامها آلهة على الأرض، وتمادت هذه الدراسات في إعادة تقديم تاريخ السلطة في الشرق بوصفه عملية كبرى ودؤوبة قام بها العبيد لتصنيع آلهة على الأرض، فحين احتل الإسكندر الأكبر مصر وبلاد فارس ومناطق كثيرة من آسيا، وجد شعوب هذه المناطق تسجد لحكامها، فتشبه بحكام الشرق ليسجد له الناس، ولما عاد إلى بلاد الإغريق طلب من مواطنيه أن يفعلوا ذلك، فرفضوا وسخروا من دعوته، حتى نصحه أرسطو في رسالة عاجلة بضرورة معاملة “اليونانيين كقادة”، ولا ضير أن يعامل “الشرقيين كعبيد”، لأنهم “بطبيعتهم غير أحرار”، وله أن يستمتع بذلك خارج مقدونيا فقط، حيث تتلذذ شعوب الشرق بالخضوع للحاكم المستبد!
 
(6)
لا أستطيع تصديق ولا تكذيب مثال الإسكندر، فالتاريخ مليء بالمبالغات والحبكات الدرامية، وفي تقديري أن عمر الإسكندر القصير لا يسمح بمحاولة استنساخ “خضوع الشرق” في بلاده التي خرج منها ولم يعد!، لكن لا بأس بالمغزى، فالناس يكتبون ما يرغبون في إثباته، والغرب يريد أن يجعل من خيالاته حقائق يجب أن يخضع لها عقل العالم، فالغرب ذاته الذي يدين إلوهية الحاكم الشرقي المستبد لم يستطع أن يخفي رغبته في تحويل سكان الأرض إلى أتباع، بل إنه لا يرضى بأقل من أن ينحني له آلهة الشرق أنفسهم من الحكام المستبدين، ولا يكتفي بالعبيد الخانعين حسب تفسيراته العنصرية!، فهذا الغرب الذي يتحدث عن “الاستبداد الشرقي” وصل الخنوع فيه  إلى التسليم بحق “الليلة الأولى” لأمراء الإقطاع، بحيث ينال الأمير كل فتاة في الإمارة برضا زوجها وأهلها، هذا الغرب عانى طويلا من هيمنة البابا والكنيسة، ودفع ماله ثمنا لصكوك الغفران، وحياته ثمنا لمحاكم التفتيش، وكانه لم يمر بمراحل بشعة ومتوحشة من الاستبداد!
 
(7)
الخنوع إذن ليس فطرة، وليس عرقا، وليس جيناً أصيلا، والاستبداد ليس حكرا على الشرق، لمجرد أن أرسطو هرش في رأسه، ورمى حضارات الشرق بحجارته التأملية، وهو لم يتخلص بعد من تأثيرات قصص آلهة الأوليمب على الحرب والاقتتال وشؤون الحكم في الممالك الشمالية، أو لمجرد أن باحثا مثل كارل فيتفوجل قدم نظرية سطحية تحت مسمى “الاستبداد الشرقي” منطلقا من ملاحظاته كتلميذ مبتدئ لدراسة أحوال الصين والهند.
المفارقة التي تستحق التأمل أن فتفوجل الذي كرس لمصطلح “الاستبداد الشرقي” في منتصف الخمسينات  ولد في ألمانيا وتربى في أجواء النازية وقاتل في الحرب العالمية الأولى، وبعد أن تشبع بالفكر الماركسي هاجر إلى بريطانيا الاستعمارية ومنها إلى الولايات المتحدة، حيث كتب مؤلفه متأثرا بفكرة هيجل العنصرية تجاه الشرق، وحاول أن يثبت فكرته في الربط بين الاستبداد والدول النهرية، معتبرا أن الاستبداد هو قدر الدول التي يسعى حكامها لإقامة مشاريع مائية على الأنهار لضمان ري منتظم للأراضي الزراعية، وهو ما يستلزم تشغيل الجموع بالسخرة والقهر، ثم فرض الضرائب على المزارعين من خلال سلطة مركزية قوية لا تقبل النقاش ولا الخلاف، وذلك من أجل السيطرة على موارد البلاد الاقتصادية وفرض الهيمنة على الناس من خلال التحكم في مصادر رزقهم ومعيشتهم، وهو ما غرس في نفوس الأفراد رغبة دفينة في الانصياع للسلطة وتقديسها لأنها تتحكم في حياتهم ذاتها!
الغريب أكثر أن سليل الحربين العالميتين المنتمى إلى أكبر قوة إمبريالية في التاريخ بعد الامبراطورية الرومانية يتحدث عن الاستبداد كقدر شرقي، لأن أوربا مناخها معتدل مطير، وبالتالي يصعب على الحاكم أن يتحكم في مصادر المياه، والأغرب أن فتفوجيل الذي كتب أيضا بعض المسرحيات الركيكة لم يخجل من الحديث في نظريته عن توازن السلطات طوال تاريخ أوربا وتوزعها بين الكنيسة والنقابات والأمراء الأثرياء!
 
(8)
لن أناقش تهافت نظرية فتفوجل التي تنصل منها كثير من الباحثين الرأسماليين والشيوعيين معا، لكنني ألفت النظر إلى الغرض من تسويق مثل هذه النظريات التي تسعى لإقناعنا بأننا خُلقنا للاستبداد، وأنه ليس مرضا غرسه في مجتمعاتنا طغاة كبار، واستخدموا في تعميمه وكلاء محليين، لا بأس من استبدال أسمائهم ووجوههم بعد استهلاكهم، لكن يبقى أن صناعة الاستبداد تقوم عليها الآن دول عظمى ومؤسسات دولية أممية، هي ياللغرابة التي تحدثنا أيضا عن عظمة الحرية وضرورة الديموقراطية، وتحرض العبيد على التحول الديموقراطي، وتقدم نماذجها الناجحة في العراق وسوريا وأفغانستان، وكل مكان تصل إليه ديموقراطية الناتو في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وليس في الشرق فقط!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان