هوامش على متن الانتخابات التركية

لا صوت في تركيا يعلو فوق صوت الانتخابات، فمهما بلغت سخونة الأحداث الإقليمية وتصاعد حدتها إلا أن الانتخابات المبكرة المزمع عقدها في الرابع والعشرين من يونيو/حزيران المقبل تحتل متن الاهتمام وهوامشه، خاصة وأن الانتخابات ستقود تركيا إلى مرحلة جديدة من تاريخ الجمهورية عنوانها الرئيسي “النظام الرئاسي” مع ما سيتبعه من تغييرات جوهرية في مفاصل وجوانب الدولة، وتأسيس ما يمكن تسميته بالجمهورية الثانية.
الاهتمام بالانتخابات ليس مقصورا على الداخل التركي، بل تعداه إلى اهتمام إقليمي ودولي بالغينِ، حتى مع اشتعال المنطقة بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، أو توالي القصف الإسرائيلي على سوريا، أو تفاقم الأوضاع اليمنية، أو عودة حفتر إلى ليبيا وبدء حملته العسكرية على مدينة درنة بدعم إماراتي مصري، أو فوز حزب الله وحلفائه بأكثر من نصف مقاعد البرلمان اللبناني في زلزال سياسي ما زالت آثاره تتداعى، أو عودة حزب النهضة إلى صدارة المشهد السياسي التونسي بتصدره انتخابات البلدية.. إلا أن كل هذا لم ينجح في حرف بوصلة الاهتمام بعيدا عما يجري في أنقرة، إذ تدرك مراكز القرار الإقليمية والدولية أن نتائج الانتخابات ستنعكس تداعياتها ليس على منطقة الشرق الأوسط فحسب بل على مناطق أخرى تتصادم فيها المصالح التركية مع مصالح قوى أخرى كما هو الحال في مناطق القرن الأفريقي، والبلقان، وقبرص، كما أن بعض هذه القوى يحاول انتهاز الفرصة للنيل من شخص الرئيس رجب طيب أردوغان، ومحاولة إسقاطه جماهيريا بعد أن عجزوا عن تحقيق ذلك بواسطة الدبابات والمجنزرات.
ورغم أن الفترة ما بين الإعلان عن الانتخابات وحتى كتابة هذه الأسطر قد تبدو قصيرة إلا أن على متن المشهد الملتهب برزت عدة هوامش تسترعي التوقف عندها
وفق تعديلات قانونية أقرها البرلمان التركي تشهد هذه الانتخابات ولأول مرة بروز التحالفات الانتخابية، ووفق القانون فإنه بوسع عدة أحزاب تشكيل تحالف إذا تمكن من تجاوز العتبة الانتخابية المقدرة بـ ١٠٪ فإن جميع أحزاب التحالف ستتمكن من دخول البرلمان، مما فسح المجال أمام الأحزاب الصغيرة -التي كان دخول البرلمان بالنسبة إليها صعب المنال لإمكانية الوجود في المجلس للمرة الأولى، وسيسهم هذا التعديل في تلافي الانتقادات التي كانت توجه إلى النظام السابق بهدر أصوات الناخبين، إذ كانت تذهب المقاعد التي حصل على الحزب الذي لم يتمكن من تجاوز الـ ١٠٪ إلى أقرب منافسيه، وكان أكثر من يستفيد من ذلك الوضع هو حزب العدالة والتنمية الحاكم صاحب التعديل الحالي، بحكم وجود لوائحه الانتخابية في جميع الولايات التركية.
شهد المشهد الانتخابي بروز ثلاثة تحالفات كبرى هي:
الأول: تحالف الشعب، ويقوده حزب العدالة والتنمية AKP إضافة إلى حزب الحركة القومية ،MHP وحزب الوحدة الكبرى BBP ويتسم هذا التحالف بالانسجام إلى حد كبير إذ تصنف الأحزاب الثلاثة أحزابا يمينية استطاعت الأحداث الكبرى التي مرت بها تركيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة مرورا بالعمليات العسكرية التي شنها الجيش التركي في الشمال السوري أن تقرب وجهات النظر بينها إن لم تصل إلى حد التطابق، لذا فإن اصطفاف الحزبين القوميين في ذات اللائحة الانتخابية مع الحزب الحاكم يبدو متسقا مع الدور الذي قام به حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهتشلي في تمرير التعديلات الدستورية، والدعوة إلى الانتخابات المبكرة.
كما أن الخزان الانتخابي للقوميين الأتراك (المتدينون منهم ) كان ولا يزال معيناً مهما لحزب العدالة والتنمية في جميع معاركه الانتخابية خاصة في الفترات التي يحتدم فيها الصراع مع حزب العمال الكردستاني PKK، كما أن حزب الوحدة الكبرى يتمتع باحترام لدى الشارع التركي نظرا لتاريخ مؤسسه الراحل محسن يازجي أوغلو الذي لقى مصرعه قبل سنوات في ظروف غامضة، إذ تشير أصابع الاتهام إلى تورط تنظيم غولن في الحادث، وكان لافتا ذهاب أردوغان في زيارة إلى مقر الحزب ولقائه رئيسه مصطفي دستجي، إذ من المعتاد ذهاب رؤساء الأحزاب إلي أردوغان بحكم موقعه الرئاسي، الأمر الذي يعكس مكانة الحزب الأدبية لدى صانع القرار في حزب العدالة والتنمية.
الثاني: تحالف الأمة، والذي يضم أحزاب الشعب الجمهوري CHP وهو حزب يساري أتاتوركي يتزعم المعارضة، وحزب الخير IYI وهو حزب قومي علماني أسسته حديثا ميرال أكشينار المنشقة عن حزب الحركة القومية، والتي ساهمت في تأسيس حزب العدالة والتنمية من قبل، وحزب السعادة SP وهو حزب يميني محافظ أسسه الراحل نجم الدين أربكان، وأخيرا الحزب الديمقراطي DP.
ورغم أن هذا التحالف -كما يبدو في ظاهره- تمكن من تجاوز الأيديولوجيا وهذه نقطة إيجابية تحسب له، إلا أنه يحمل في أحشائه تناقضات لا يمكن إغفالها، فالعداء بين حزب السعادة وحزب الشعب ممتد إلى زمن أربكان ( كان حينها الحزب يسمى الرفاة) بسبب اتهامات لحزب الشعب بدعم انقلاب ٢٨ فبراير/شباط ١٩٩٧ الذي أطاح بأربكان من رئاسة الوزراء وتسبب في حل حزب الرفاة بعد ذلك، كما أن تحالف اليسار واليمين المفاجئ أثار تساؤلات في ظل ميراث من العداء بين الجانبين لا يمكن تجاوزه، وقد انعكست تلك التناقضات على فشل تلك الأحزاب في تقديم مرشح موحد للرئاسة، ويبقى التساؤل حول قدرتها في رصِّ قواعدها وإقناعهم بالتحالف، إضافة إلى جذب مزيد من الأصوات من خارج كُتَلهم الصلبة.
الثالث: تحالف يقوده حزب الشعوب الديمقراطي HDP وهو حزب يساري كردي تتهمه الحكومة التركية بأنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني الانفصالي، إضافة إلى مجموعة من الأحزاب الكردية الصغيرة، وكانت أنباء ترددت في الفترة السابقة عن انضمام حزب الدعوة الحرة (حزب إسلامي كردي) للتحالف، لكن الحزب نفى ذلك، وتشير المعلومات إلى إمكانية تنسيقه مع حزب العدالة والتنمية، خاصة عقب استقبال أردوغان لرئيسه زكريا يابجي أوغلو قبل أيام، هذا التحالف سيتركز مجهوده الرئيسي في ولايات الجنوب الشرقي وخاصة في ولاية ديار بكر، حيث غلبة المكون الكردي، لكن من غير المؤكد أن يتمكن من تجاوز عتبة الـ١٠٪ نظرا للملاحقات الأمنية التي طالت العديد من قادته، وانخفاض مستوى شعبيته.
المعارك الانتخابية في تركيا تمتاز بسخونتها وتشهد تلاسنا حاداً بين أطرافها المختلفة، وإذا كان أردوغان يتميز بتفوقه على خصومه من حيث القدرة على التواصل الجيد مع الجماهير بما يتميز به من قدرات خطابية متميزة، فإن المعارضة تحاول تعويض ذلك من خلال الواقع الافتراضي عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وقد اشتعلت معركة الأجواء الافتراضية مبكرا إذ أكد أردوغان في كلمة، أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، أنه سيرحل ويترك منصبه إذا قال له الشعب تمام (أي كفاية)؛ فدشنته المعارضة وسما على تويتر شارك فيه مرشحون ومعارضون بارزون واحتل المركز الأول في التصنيف داخل تركيا، فسارع المؤيدون إلى تدشين وسما مضادا هو “استمر”، شارك فيه سياسيون ووزراء، لكن جبهة التأييد لم تكتفِ بالوسم المضاد بل لجأت إلى تحليل وسم “تمام” فكانت المفاجأة أن أكثر من مليون تغريدة صدرت تحت ذلك الوسم كانت من خارج تركيا؛ بل إن الدول الخمس الأولى في إصداره كانت كالتالي: الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين والمملكة المتحدة والمكسيك، وعبر حسابات وهمية، ونشر الحساب الرسمي لوزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو وغيره نتائج التحليل مع اتهامات لتنظيم “غولن” بمحاولة التأثير على الانتخابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ويبدو أن الحملة الانتخابية لأردوغان استفادت من الجدل القائم في الولايات المتحدة حول التدخلات الروسية في انتخابات الرئاسة لصالح ترامب، والفضائح التي تكشفت تباعا حول استخدام شركة “كامبردج أنالتيكيا” لبيانات ملايين المستخدمين في فيسبوك لصالح سياسيين ومنهم حملة ترامب الرئاسية.
المتوقع أن يزداد اتساع استخدام الفضاء الافتراضي خاصة مع الدعم الواضح الذي قد تجده تلك الحملات من أعضاء تنظيمي غولن وحزب العمال المقيمين في أمريكا وأوربا.
في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في أبريل/نيسان ٢٠١٧ لعب المكون الكردي في ولايات الجنوب الشرقي دورا مهما في حسم النتيجة لصالح الموافقة، وتقديري أن الأمر قد يتكرر في هذه الانتخابات، الأمر الذي تدركه الأحزاب والتحالفات المختلفة، فحزب العدالة والتنمية ورغم دخوله في تحالف مع القوميين إلا أنه لم يهمل الطيف السياسي الكردي فحاول اجتذاب حزب الدعوة الحرة (كردي محافظ) إلى التحالف؛ لكن يبدو أن الأمر لم يتم شكليا على الأقل، إذ من غير المنتظر انضواء الأكراد والقوميين في لائحة انتخابية موحدة، لكن يبقى الحديث عن إمكانية دخول أعضاء من حزب الدعوة الانتخابات على لوائح التحالف دون أن ينضم الحزب رسميا إليه، مع دعم أردوغان في انتخابات الرئاسة.
حزب العدالة والتنمية هنا يعول على الخدمات التي قدمها رؤساء البلديات الذين تم تعيينهم بدلا من كثير من المنتسبين إلى حزب الشعوب الديمقراطي الذين تم عزلهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة دعم حزب العمال الانفصالي، وقد تمكن هؤلاء المعينون من إحداث تغيير حقيقي في مستوى الخدمات خاصة في ولاية ديار بكر (لها ١٢ مقعدا في البرلمان) مع انحسار التهديد الذي كان يطال أهالي القرى والأقضية من جانب التنظيم وذلك لحملهم على التصويت لأعضائه قسرا.
الاهتمام بالصوت “الكردي” امتد إلى أحزاب المعارضة فقد بادر مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إنجه بزيارة رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش في محبسه، وطالب رئيس حزب السعادة تمل قرامولا أوغلو بالإفراج عن دميرتاش، في محاولة لكسب مزيد من أصوات الكتلة الكردية.
وفي ظل الثبات النسبي للكتل الأساسية المحافظة والقومية والعلمانية يبقى التعويل لدى جميع الأطراف على جذب مزيد الأصوات من داخل الكتلة الكردية.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه