لمسة المخابرات في قانون الزراعة!
لأول مرة في تاريخ الزراعة المصرية، وفي تاريخ قانونها الراسخ، والمعمول به، والمنظم لها، منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، يستحدث نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي تعديلات على قانون الزراعة رقم 53 لسنة 1966، تقضي بعقوبة المزارعين المصريين بالحبس حتى 6 أشهر، وبالغرامة المالية حتى 20 ألف جنيه، لمن يزرع الأرز في مناطق غير مصرح بها، بعد أن كانت تقتصر العقوبة على غرامة مالية لا تزيد على خمسين جنيهًا.
التعديلات صدرت في الثاني والعشرين من شهر أبريل الماضي، بعد قرار وزير الموارد المائية والري، محمد عبد العاطي، نهاية يناير/كانون الثاني بتخفيض مساحة محصول الأرز إلى نصف ما كانت عليه في الأعوام الماضية.
كان المُشرع المصري واعيًا وموضوعيًا حين جعل من “تنظيم الإنتاج الزراعي والدورة الزراعية.. وقواعد تعيين مناطق زراعة الحاصلات ونظم تعاقبها ونسب ما يزرع منها” روحًا وهدفًا لقانون الزراعة المصرية، ولم يفته أن ينص على هذا الهدف في المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون وقت صدوره.
وجاءت المادة الأولى متسقة مع روح القانون، وهي تحديد مناطق زراعة الحاصلات وتمنع زراعتها في مناطق أخرى كالتالي: “لوزير الزراعة.. أن يحدد مناطق لزراعة حاصلات زراعية معينة وأن يحظر زراعة حاصلات في مناطق محددة”
في المقابل، بينت الحكومة هدف مشروع القانون الذي طرحته للتعديل في مذكرة مشروع القانون الذي نشره “اليوم السابع” بتاريخ 21 أبريل الماضي على النحو التالي “يهدف مشروع القانون إلى التنسيق بين الوزارات المعنية في شأن تقرير حظر زراعة محاصيل معينة من الحاصلات الزراعية”
وجاءت المادة الأولى تعبر عن الروح الغريبة في القانون الذي تعدله الحكومة وتنص على “لوزير الزراعة.. أن يحظر زراعة محاصيل معينة في مناطق محددة” ما يعني أن حكومة السيسي تنص في المادة الأولى من قانون الزراعة على “حظر زراعة المحاصيل” قبل أن تنص على تنظيم زراعتها!
وبذلك حولت الحكومة “قانون الزراعة” إلى “قانون حظر الزراعة” لندرك أن اليد التي تناولت تعديل القانون ليست يدًا متخصصة في الزراعة، وإنما يد المخابرات التي تدير وزارتي الزراعة والري.
وجاءت المادة الثانية من القانون الأصلي تنص على “لوزير الزراعة.. أن يحدد مناطق لزراعة أصناف دون غيرها من الحاصلات الزراعية” وذلك من أجل تطبيق الدورة الزراعية اللازمة لزراعة القطن، عصب الزراعة المصرية، وحظر زراعة أكثر من صنف في منطقة زراعية واحدة.
في المقابل، نصت الحكومة في المادة الثانية من التعديلات على “لوزير الزراعة.. أن يحدد بقرار منه مناطق لزراعة محاصيل معينة دون غيرها من الحاصلات الزراعية” ما يؤكد أن المُشرع لا يعرف الفارق بين الأصناف التي وردت في القانون الأصلي، والحاصلات التي جاءت في التعديلات، كما لا يدرك أهمية تحديد مناطق زراعية متباعدة للأصناف المختلفة من المحصول الواحد.
وبالرغم من تبرير الحكومة الهدف من تعديل القانون بـ “الحد من اختلاط السلالات والحفاظ على نقاوة التقاوي والأصناف” ثم أكدته في مقدمة القانون بقولها “إن تباين زراعة أصناف من المحصول الواحد في الحقول المتجاورة يؤثر بالسلب على آلية استنباط الأصناف والسلالات من المحاصيل الاستراتيجية ويسهم في تدهور وانخفاض مستويات الإنتاجية المحصولية” فقد وضعت المخابرات لمستها في المادة الثانية لتفسد القانون.
وجاء نص المادة 101 من القانون الأصلي كالتالي: “كل مخالفة لأحكام القرارات التي تصدر تنفيذا لإحدى المواد 1، و2.. يعاقب مرتكبها بغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تزيد على خمسين جنيهًا عن الفدان أو كسور الفدان.. ويجوز للوزارة قبل الحكم في الدعوى إزالة أسباب المخالفة بالطريق الإداري على نفقة المخالف” وبذلك تتناسبت الغرامة مع المخالفة التي لا تتطلب الحبس، ولا توجب إزالة المحصول، حرصًا على مصلحة الفلاح وتعذر زراعة المحصول الأصلي.
في المقابل، جاء نص تعديلات الحكومة على نفس المادة كالتالي: “يعاقب كل من خالف أحكام المواد 1، 2، بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه كما يُحكم بإزالة المخالفة على نفقة المخالف”
تداركت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالبرلمان الخطأ القانوني في تعديل الحكومة، أو في بصمة المخابرات، وصححته كالتالي: “يعاقب كل من خالف أحكام القرارات التي تصدر تنفيذًا لإحدى المواد” وعللت اللجنة التصحيح بأن “المخالفة تكون للقرارات المنظمة لأحكام المواد” ما يؤكد أن اليد التي عبثت بالقانون ليست قانونية، ولا تدرك الفارق بين القانون التشريعي، والقرار التنفيذي.
الحكومة، إذن، استحدثت عقوبة الحبس لأول مرة في القانون، وضاعفت الغرامة، وأوجبت إزالة المحصول دون الرجوع لجهة الاختصاص، وهي وزارة الزراعة، والتي قد ترى عدم الحاجة لإزالة المحصول حرصًا على مصلحة المزارع، وعدم تبوير الأرض لموسم زراعي كامل، حرصًا على المصلحة العامة.
وبالرغم من توصية اللجنة البرلمانية للزراعة والري والأمن الغذائي، ولجنة الشئون الدستورية والتشريعية، والمشكلة لدراسة القانون، وبحضور مندوبين عن الحكومة من وزارات الزراعة والري والعدل، وتوصيتها بإلغاء عقوبة الحبس حرصًا على حرية الفلاحين وضمان استمرار الإنتاج الزراعي، أهم قطاعات الاقتصاد القومي، وكذلك توصيتها بخفض الحد الأقصى للغرامة بما لا يزيد على 10 آلاف جنيه “حتى تتناسب مع جسامة المخالفات” بحسب تقرير اللجنة المصور والمنشور في جريدة اليوم السابع بتاريخ 21 أبريل 2018، وبالرغم من ذلك، تجاهلت الحكومة، أو المخابرات، التوصيات دون أي اعتبار لهيبة البرلمان.
وبالرغم من اعتراضهم على حظر زراعة الأرز على وجه الخصوص، وافق أعضاء البرلمان على تعديل القانون تحت تهديد رئيس البرلمان برفع الجلسة، وقال في الجلسة المذاعة على الهواء “قلت في أول الجلسة أن هناك موضوعات حساسة محل تفاوض، وأنتم كأنكم تسيرون في الاتجاه المعاكس، هذا أمر غير مقبول من الناحية السياسية، وأنتم لم تقدروا خطورة هذا الكلام، هذا الأمر في غاية الخطورة” ثم أغلق باب المناقشة وأعلن الموافقة على تعديلات القانون.
نفت وزارة الموارد المائية والري في بيان رسمي علاقة سد النهضة الاثيوبي بقرار تقليص مساحات الأرز، ليكون السؤال هنا، إذا كان سد النهضة بريء من تقليص مساحة الأرز، فلماذا تحارب الحكومة هذا المحصول الاستراتيجي منذ تولى الجنرال السيسي الحكم، وقبل أن تحل كارثة السد؟
بررت الوزارة قرار تخفيض مساحة الأرز بعدم اهدار المياه وترشيد الاستهلاك، ولكنه تبرير غير مقنع، ويثير سؤالًا مهما، ألا وهو: ما فائدة مياه النيل إذا لم تستخدم في زراعة الأرز؟! وهو المحصول الغذائي للمصريين، والنقدي للفلاحين، والعلاجي لأراضي الدلتا الزراعية من التملح، كما يصفه عالم الجغرافيا المصري الدكتور جمال حمدان في كتابه القيم “من خريطة الزراعة المصرية”
تعديل الحكومة قانون الزراعة وحبس الفلاحين لن يحل أزمة شح المياه، ذلك أن وقف إهدار المياه في ملاعب الجولف في المنتجعات، وتطبيق الدورة الزراعية، التي تنص عليها المادة 4 من القانون، وأهدرتها التعديلات، والتي ألغاها يوسف والي، وزير الزراعة في عهد المخلوع مبارك في 1993، توفر 25% من مياه الري، أي حوالي 10 مليار متر مكعب، وهي كمية كبيرة تسمح بزيادة مساحة الأرز إلى 1.5 مليون فدان، وليس تخفيضها إلى النصف، فضلًا عن تجريم المزارعين وحبسهم.
محاربة الأرز ليس لترشيد المياه كما تدعي الحكومة، لكنه شماعة لعجز النظام أو تخاذله، عن وقف بناء السد، وتنفيذًا لتعهد السيسي بتقديم تنازلات تشمل خفض زراعة الأرز خلال فترة ملء خزان سد النهضة، والتنازل عن حصة مياه إضافية كانت تصلها نتيجة لعدم استخدام السودان ودول الحوض حصتها بالكامل، وتقدر بنحو 15 مليار متر مكعب، في مقابل تعهُّد إثيوبيا بالحفاظ على الحصة الرسمية لمصر وفقاً لاتفاقية 1959، بحسب مصادر حكومية ودبلوماسية مصرية لـ “العربي الجديد” في التاسع من فبراير الماضي.
تعديل قانون الزراعة، وتخفيض مساحة الأرز، أو منع زراعته بالكلية، لا يعالج شح المياه، ولا يحل أزمة سد النهضة، كما لا يعفي السيسي من التزامه الدستوري والسياسي أمام شعبه في المحافظة على حصة مصر التاريخية والقانونية من مياه النيل، وقريبًا سوف يصدق التاريخ ذلك أو يكذبه.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه