مهاتير – أنور.. والغاية عندما تبرر الوسيلة

في ماليزيا تحدث أعاجيب بواسطة الديمقراطية. مهاتير محمد رئيس الوزراء “التاريخي” يتخلى عن السلطة برغبته في 2003 بعد اعتقاده أنه وضع لبنات مهمة في نهضة وبناء دولة فقيرة كانت تعيش خارج التاريخ والحداثة. يختار عبد الله بدوي خليفة له لرئاسة الحكومة وقيادة البلاد. سريعاً لا يرضى بحياة الظل، فينقلب سياسياً على النظام الذي أسسه، وعلى الخليفة الذي باركه، ويعود للحياة السياسية من الباب الآخر، باب المعارضة للنظام الحاكم الذي كان قائداً له منذ عام 1981. ويواصل المعارضة ويُصّعدها في عهد نجيب رزاق رئيس الوزراء التالي الذي خلف بدوي حتى ينجح في هزيمته انتخابياً وإسقاطه سياسياً يوم 9 مايو الجاري ليعود مرة أخرى للجلوس على كرسي رئاسة الحكومة الذي تركه بإرادته منذ 15 عاماً حيث قاد تحالف المعارضة للفوز، وإخراج التحالف الحاكم من السلطة.

المغضوب عليه

تحالف المعارضة الذي تزعمه مهاتير يضم حزب أنور إبراهيم زعيم المعارضة الذي تم سجنه مرتين، ومهاتير كان أشد خصومه، ومأساة إبراهيم بدأت على أيدي مهاتير عام 1998 عندما أقاله من كافة مناصبه، ودفع به للسجن بتهم فساد مالي وإداري وأخلاقي، وإبراهيم كان نائب مهاتير في رئاسة الحكومة، ووزير المالية، لكنه بين عشية وضحاها صار مغضوباً عليه منبوذاً مشوها اجتماعياً بتهمة مشينة في المجتمعات الإسلامية، وهي المثلية، ومجرد الإشارة إليها كافية لتدمير أي شخص حتى لو كان من عوام الناس، والحكم على أسرته بالعار جيلاً بعد آخر.

تحالف العدوان اللدودان، ووضعا أيديهما في أيدي بعض لإسقاط النظام الحاكم منذ عقود طويلة، ونجحا، وكان الاتفاق أن يسعى مهاتير لإصدار عفو شامل عن أنور يُخرجه من السجن ويُمّكنه من استعادة وممارسة كافة حقوقه السياسية، وهذا ما حدث فعلاً، والبند الآخر في الاتفاق أن يتولى أنور رئاسة الحكومة بعد أن يقضي فيها مهاتير عاماً أو اثنين، وهذا ما يُتوقع حدوثه، فالتحالف الحاكم الجديد يحتل فيه حزب أنور أكبر عدد من المقاعد النيابية، بينما عدد مقاعد حزب مهاتير قليل ولا يساعده على فرض شروطه إذا أراد الإفلات من الالتزام بتسليم السلطة، الميزه المهمة التي جعلت خصوم مهاتير يضعونه في قيادة المعارضة هو اسمه وتاريخه وإنجازاته في بناء ماليزيا الحديثة ودفعها للتقدم، والميزة الأخرى أنه ابن النظام الذي خرج عليه ويعارضه لإسقاطه عبر الصناديق، وليس عبر وسائل غير سياسية أو ديمقراطية.

ودائماً وأبداً وفي كل تجربة ديمقراطية فإن التغيير عبر آليات الديمقراطية هو الطريق الأكثر أمناً وسلامة واستقراراً وعدالة للمجتمعات والأوطان، والعكس يقود دائماً وأبداً إلى أزمات سياسية واجتماعية ووطنية وأخلاقية معقدة تدفع الشعوب والأوطان إلى الدخول في أنفاق مظلمة بلا نهاية، هذا إذا لم تنخرط في احتراب أهلي يجلب تدخلات خارجية يكون من نتائجها خراب البلدان وسفك الدماء وتشتت الشعوب، وبالنظر للخريطة العربية سنجد هذه المصائر الكارثية مُتحققة تماماً لتقدم دروساً لمن يريد أن يتعلم ويعي ويفهم في أي بلد أو منطقة أخرى خارج حزام التخلف والتحجر والاستبداد العربي، ولعل ماليزيا تقدم نموذجاً قديماً لهذا الوعي السياسي كبلد إسلامي أفلت من الديكتاتورية.

النظام الأفضل

ومهما كانت هناك من سلبيات ومساوئ للديمقراطية في نتائجها وإفرازاتها أحياناً، لكنها تظل النظام السياسي الإنساني الأفضل والذي لا يعلو عليه أي نظام حكم آخر، وأي نقد للديمقراطية أو تعريض بها يكون من قبيل تسويغ حكم الفرد وممارسة التضليل العام والتهرب من الاعتراف بأن الفشل قرين الحكم التسلطي مهما بالغت أذرعه الدعائية في تجميل وجه كئيب لا تنفع معه كل المساحيق، وبالنظر للخريطة العربية مرة أخرى سنجد هذا الواقع الكالح يتحدث عن نفسه، فالمساحيق تسيل، والدعايات تتساقط، والتضليل يتكشف، والأكاذيب تنهار، والحقيقة المرة للاستبداد المر تعلن عن نفسها جهاراً نهاراً.

ويسترعي النظر أنه مهما كانت سلبيات الديمقراطية في ماليزيا، لكنها في النهاية تنتج حكما يختاره الشعب بنفسه، مثل أي بلد ديمقراطي في الغرب، فهذا الشعب هو من جاء بحاكم سابق طاعن في السن مثل مهاتير “92 عاماً”، ومعه أحزاب المعارضة، والديمقراطية أتت بـ ترامب الذي لم يكن يصدق هو ومن حوله من فريق حملته أنه فاز برئاسة أمريكا، وهزم المخضرمة الخبيرة هيلاري كلينتون، وهكذا في عشرات التجارب الأخرى، ومنها فرنسا التي جاءت بالشاب ماكرون “39 عاماً” للرئاسة بخبرة عمل سياسي محدودة مقارنة بأساطين السياسة والحزبية والحكم الذي خرجوا من السباق مهزومين أمامه.

في الأنظمة الكارهة للديمقراطية العاشقة لحكم الفرد “المقدس” لا تكون هناك مفاجآت في الاختيار الشعبي، ولا الخروج عن السياقات الحزبية في إفراز حكام من عينة جديدة محملين بآمال وتطلعات مواطنيهم لإحداث تغيير وتجديد في بنية الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى لو لم يتحقق شيئاً كبيراً من ذلك، فالفضيلة هنا أن التراكم الديمقراطي والاختيار الحر المتتالي يُثقل وعي وفهم ومسؤوليات الشعوب في حكم نفسها بنفسها عبر الديمقراطية، وفي الأنظمة الأخرى فإن واقع وحياة الشعوب يظل مرتهناً بإرادة شخص يفرض نفسه في الحكم، أو يختاره تحالف جماعات المصالح المحتكر للسلطة والنفوذ والثروة، وتبقى الشعوب معملاً لتجارب حكم منعدمة الكفاءة في تكرار لنماذج ثبت فشلها في مئات الأنظمة حول العالم.

الاعتذار

عندما تحالف مهاتير مع خصمه أنور إبراهيم، وعندما اعتذر له عن التنكيل به، وعن تهمة المثلية التي عانى منها طويلاً في سمعته الشخصية وحياته العائلية ودخوله السجن، ولم يتركه خلفاء مهاتير، بل واصلوا ملاحقته والتنكيل به بذات التهمة المشينة مجتمعياً، فإن الصورة البراقة للنهضوي الماليزي، الذي جابت سمعته الآفاق، خاصة لدى الشعوب العربية والإسلامية التي تتوق إلى بنّاء ماهر مثله، وتضرب به المثل تدليلاً على فشل حكامهم في أداء نفس الدور، قد تعرضت للخدش في نظري، فالجانب الأخلاقي في السياسة والحكم مهم حتى لو كانت السياسة لا تعترف بالأخلاق، وتجري وراء المصالح.

 والقضية الأخلاقية في حالة مهاتير مهمة لأنها كانت حاضرة دوماً وهو يبني تجربته وصورته الكاريزمية ونموذجه كحاكم ديمقراطي لبلد غالبيته إسلامية، وهي حزمة المعاني الذي ظل يواصل تصديرها بعد خروجه من الحكم واستدارته للمعارضة بالتشديد في خطابه السياسي على محاربة الفساد وتكريس قيم الطهارة والنزاهة والشفافية والوضوح والأخذ بالعلم والتكنولوجيا وإزالة كل معوقات الجمود والتخلف.

وكما أسعدني أن تأتي تبرئة أنور أخلاقياً من الرجل الذي دفع به إلى الجحيم، ومحاولة تدميره لأهداف سياسية، فإن ذلك آلمني أيضاً لأن هذه التبرئة تمثل في وجهها الآخر إدانة لمهاتير نفسه، فقد ظهر أنه لم يكن ذلك النموذج الديمقراطي الأخلاقي المكتمل أو المثالي في عالمنا الإسلامي، بل هو نموذج الديمقراطي المتسلط الذي لا يقبل بمعارضة من داخل منظومته، ومن رجاله وأركان حكمه، وأنه كان على استعداد ليشهر بمن يختلف معه ويدمره ويسحقه بكل وسيلة حتى لو كانت تتعارض مع الأخلاق والإنسانية.

الميكافيلية

القاعدة الميكافيلية الشهيرة، وهي أن الغاية تبرر الوسيلة، لا تزال الأكثر فعاليةً ونشاطاً في أنظمة الحكم حتى لو كانت هذه الأنظمة ديمقراطية، ومهاتير محمد أحد من لجأ إليها، وهو في الحكم ” إقصاء أنور إبراهيم”، ثم وهو في المعارضة ” التحالف مع أنور إبراهيم”، وصولا للحكم مجدداً ” استصدار عفو شامل عن إبراهيم، والتعهد بترك الحكم له”.

وأنور نفسه اعتمد القاعدة أيضاً عندما وافق على التحالف مع مهاتير مقابل الحصول على الاعتذار منه عما ألحقه به من قبل، ووعود العفو عنه، ثم الإمساك بالسلطة التي سعى إليها طويلاً.

 أما السياسة الأخلاقية، أو الأخلاق في العمل السياسي، فهي فكرة مثالية مكانها المدينة الفاضلة التي يحلم بها المثاليون من البشر، وهي فكرة لن تظهر على أرض يسيطر عليها بشر غير مثاليين، وهم كل البشر تقريباً حالياً.

ثنائية مهاتير – أنور تؤكد مجدداً أن السياسة لعبة مصالح كبرى لا مكان فيها لأصحاب القلوب الطيبة، والعقول البليدة، والنوايا الحسنة، والأخلاق الحميدة، مع الأسف.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه