تهديدات السيسي لإعلام الخارج

ضمن رسائله التي وجهها خلال مؤتمر الشباب الأخير أطلق السيسي تهديدات شديدة وغامضة للإعلاميين المصريين المعارضين في الخارج وقنواتهم التي يعملون بها وبل وحتى الضيوف الذين يظهرون عليها، وهذه التهديات بالطريقة التي خرجت بها توحي بأن النظام المصري لم يعد يطيق وجود هذا الإعلام المعارض له في الخارج الذي يؤرقه في يقظته ومنامه بعد ان تمكن من تأميم الإعلام في الداخل وإغلاق وحجب كل المنابر المستقلة.
نزول السيسي إلى ساحة المواجهة المباشرة مع معارضيه من الإعلاميين يعني أيضا أن رجاله وأذرعه الإعلامية فشلت في مواجهة هذا الإعلام المعارض رغم الإمكانات الضخمة التي تتوفر لها، حيث أن راتب مقدم برنامج واحد يوازي ميزانية قناة بأكملها من الإعلام المناهض للنظام في الخارج، نعم فشلت هذه الأذرع في مواجهة قنوات ومواقع لا تملك إلا القليل من الموارد المادية والمهنية، لكنها تملك الكثير من الحق، وعدالة القضية، ونبل الأهداف التي تجعلها تصل بسهولة إلى المشاهدين، وتنافس قنوات مدينة الإنتاج الإعلامي صاحبة الميزانيات المليارية، بل تسحب منها جمهور المشاهدين وهذا ما وثقته هيئات محايدة مختصة بأبحاث المشاهدة، قامت السلطات المصرية بإغلاق مكاتبها في القاهرة عقابا لها على تلك الشهادات.
لا تحتاج القنوات المناهضة للنظام الانقلابي في الخارج إلى مزيد الشهادات على نجاحها في مهمتها، فكما يقولون “الفضل ما شهد به الإعداء”، ويكفي هنا شهادة السيسي وأذرعه الإعلامية الذين يتألمون من تزايد مشاهدة هذه القنوات في البيوت المصرية، والانصراف المتسارع عن مشاهدة قنوات النظام، التي فقدت احترام المشاهدين بعد أن تحولت إلى مجرد أبواق تردد أكاذيب النظام على عكس الحقيقة التي يراها المواطن بعينيه.
هي حالة نجاح إذن للإعلام المناهض للإنقلاب، دفعت رأس النظام للتهديد والوعيد، وبدأ رجاله على الفور في تنفيذ تلك التهديدات عبر تحرك بعض نواب البرلمان لسن تشريع يعاقب بالحبس هؤلاء الإعلاميين في الخارج، هؤلاء النواب أنفسهم سبق أن أقسموا على إحترام دستور يمنع في مادته 71 الحبس في قضايا النشر، لكن لم يعد انتهاك الدستور الذي رقصوا له يمثل أي مشكلة لديهم بعد أن قال عنه كبيرهم “إنه كتب بنوايا حسنة”.
وجه آخر لتنفيذ تلك التهديدات تمثل في تحريك قضية مهملة في مكاتب النيابة العامة منذ العام 2015 لعدم قيامها على ساقين، وغياب أي إتهامات جدية، أو أدلة حقيقية فيها، وهي المرقمة 10383 والمعروفة إعلاميا بالخلايا الإعلامية الدولية، والتي تم مضاعفة عدد المتهمين فيها إلى 81 شخصا (منهم عدد كبير من الصحفيين بينهم كاتب هذه السطور) وقد تم تحويل هذه القضية خلال الأيام الماضية إلى نيابة امن الدولة التي لم تعد بحاجة لأدلة ولا لشهود ولا لأي شيء، بل إنها ستقوم بدورها بوضع بصماتها على التحقيقات وتحويلها مباشرة إلى إحدى دوائر الإرهاب التي لا تحتاج بدورها إلى أدلة ولا إلى شهود ولا إلى دفاع، فالحكم في مثل هذه القضايا يكون مكتوبا سلفا ولا ينتظر مرافعات.
من سخرية القضايا الهزلية أن يتم إتهام صحفيين برصد السلبيات ونشرها (باعتبار ذلك جريمة) وكذا الادعاء بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان في مصر، وتقديم شكاوى بها للهيئات الدولية ( وبينها هيئات عديدة تتمتع مصر بعضويتها مثل اليونسكو التي منحت المصور المصري السجين محمود شوكان جائزتها السنوية، ومثل اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في الأمم المتحدة، ومثل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ومثل المقرر الخاص لحرية التعبير، والمقرر الخاص للقتل خارج نطاق القانون والمقرر الخاص للإختفاء القسري الخ) وكان الأجدر بالنظام المصري الانسحاب من هذه الهيئات الدولية التي تتلقى الشكاوى ضده، ولا يستطيع الرد عليها سوى بمزيد من التنكيل بمن يرسلون الشكاوى وملاحقتهم في الداخل والخارج، أي أن النظام يريد أن يقتل الناس ويعذبهم ولا يمنحهم فرصة للتوجع والشكوى.
يصور النظام لأنصاره أنه يواجه آلة إعلامية جبارة مناهضة له في الخارج، تضم عشرات القنوات وعشرات الصحف ومئات المواقع الإلكترونية، وشركات العلاقات العامة، وأنها نجحت في تجنيد كبريات القنوات والصحف العالمية مثل سي إن إن وبي بي سي، ودوتش فيله، وفرنسا 24، وواشنطن بوست ونيويورك تايمز والغارديان وغيرها، والحقيقة أن المنظومة الإعلامية المصرية المناهضة للسيسي تضم 3 قنوات تتساوى ميزانياتها جميعها مع راتب إعلامي واحد مثل عمرو أديب أو زوجته لميس، أو أحمد موسى، إلخ، وهناك بعض المواقع الإخبارية البسيطة أيضا، والتي لا تتكلف مبالغ كثيرة، لأن معظم إنتاجها يأتي من متطوعين، وفي الحقيقة فإن العمل الإعلامي الطوعي هو الأكثر انتشارا عبر ملايين الحسابات الشخصية على الفيس بوك وتويتر واليوتيوب والإنستغرام الخ، وهؤلاء المواطنون المناهضون للحكم العسكري يتحركون ويكتبون بدوافع ذاتية انطلاقا من قناعاتهم الخاصة، وهذا هو “الجيش الإلكتروني” الحقيقي الذي يحاصر السيسي حتى في منامه، والذي لم تفلح معه كتائب إلكترونية (سيسية) مجهزة بأحدث التقنيات وأعلى الرواتب، لكنها في النهاية تعمل بروح الموظف وليس صاحب القضية.
لا أظن أن تهديدات السيسي الجديدة عبثية، وقد نشهد صورا أخرى لتنفيذها ربما خارج نطاق القانون كما أشار بيان للمرصد العربي لحرية الإعلام مؤخرا، ولكن من خلال معرفة طبيعة المستهدفين بالرسالة فإن المؤكد أنها وصلت للعنوان الخطأ، فهؤلاء الإعلاميون الذين يهددهم السيسي ليسوا مجرد مرتزقة، وليسوا مجرد موظفين يعملون وينتقدون مقابل أجر مالي فقط، بل هم أصحاب قضية عادلة خرجوا أو أخرجوا بسببها من بلدهم ليواصلوا أداء رسالتهم في أماكن تتيح لهم ذلك، وهم لا يأبهون بمثل هذه التهديدات، فقد عاشوا ما هو أصعب منها حين حملوا على أكفهم جثامين زملائهم الشهداء في مواقع الأحداث، وكانوا هم أنفسهم مشاريع شهداء.
لن تحل التهديدات للإعلاميين وغيرهم أزمة النظام ولا أزمة مصر بل حلها في عودة العسكر لثكناتهم، واستعادة المسار الديمقراطي الكامل حتى ينعم الوطن وناسه بالأمن والإستقرار والحرية والإزدهار.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه