«فنكوش»

وانتساب شخص لآل البيت يطهره مما تقدم من ذنوبه وربما مما تأخر أيضا، وهو ما يجعل حكام هذه الأقوام حريصين على الانتساب لآل البيت ليصبح هذا النسب درعا يخفون وراءهم ذنوبهم التي سيرتكبون
لن أكتب اليوم في السياسة ولا في الاقتصاد ولا حتى في الفن والثقافة، ولكني سأتحدث عن «الفنكوش» الذي أصبح جزءاً أساسياً من مكونات نظم الحكومات العربية وخاصة في مصر.
«الفنكوش» يا سادة مصدره أرض المحروسة مصر، وهي كلمة يعرفها أهل مصر جيداً ومصدرها أحد الأفلام العربية، وتشير إلى الأكذوبة أو الوهم وتحديدا هي اسم بلا محتوى.
وأصبح أبناء بهية (أهل مصر) يطلقون على أي كيان فارغ بلا محتوى «فنكوش»، وترتب على الكلمة ومحتواها ردود أفعال من المصريين عبروا عنها بكلمات عامية مقتضبة وإشارات مثل «طنش ونفض وكبر».
والحقيقة أن الـ «فنكوش» حالة أقدم من اسمها الحديث، ولهذا اعتاد الشعب المصري في علاقته بحكوماته عبر الأزمنة أن يستقبل «فناكيشهم» الكثيرة ربما بود وترحاب وحماس.
وهي مشاعر تكون في أغلب الحال «فنكوش» فالعلاقة بين أكاذيب وأوهام الأنظمة ومشاعر الشعب تتميز بصراحة شديدة في الكذب، والشعب المصري بطبيعته الساخرة وخبراته مع الظروف المعيشية السيئة، من الصعب خداعه وإقناعه بالأكاذيب والأوهام وفي نفس الوقت من الصعب دفعه لمواجهة شفافة مع هذه الأكاذيب.
لهذا فهو يرد على «فناكيش» الحكومات والحكام بمشاعر وانطباعات بالتصديق محتواها أيضا «فنكوش»، وكلا من الجبهتين يخدع الآخر بهدف متفق عليه وهو أن تسير الحياة.
وأكاذيب الحكومات والأنظمة يا سادة، مثلها مثل كل شيء، مراتب ودرجات وأنواع منها ما هو فخيم يقترب من مناطق الاقتناع لدى متلقيها ومنها ما هو رديء سيئ يفرض نفسه على متلقيه بفعل البطش والعنف.
المهم أنه تحول من كونه سلوك دخيل على أطرافها إلى ضرورة تصبح بفعل الواقع جزءا من مكون الحكومات والحكام والشعوب يصدقونها ويقتنعون بها ويروجون لها، وهو ما أشارت إليه البروفسورة «أنا جاليوتي»، في دراسة أجرتها في جامعة «ايسترن بيدمونت» الإيطالية من أن الزعماء والقادة والساسة، الذين يلجؤون إلى الكذب، يحرصون على الاستمرار في الكذب وتزيين أكاذيبهم للشعوب لأسباب تبدو لا إرادية تعتمد على كونهم أنفسهم يصدقون لاحقا تلك الأكاذيب التي يروّجونها.
والـ«فناكيش» في مصر منها ماهو سياسي ومنها ما يتعلق بالوضع الاقتصادي ومنها ما يتعلق بالوضع الصحي، وغالبا مايكون هدفها تصدير صورة وهمية عن نجاحات لمؤسسات داخل نظام الحكم، أو تعويض عن واقع فاشل وانهيارات مجتمعية، أو لجذب انتباه الشعب بعيدا عن مشاهد لا يريد الحاكم ورجاله أن يلتفتوا إليها.
إلا أن «فناكيش» مصر الآن خرجت عن إطار الجودة والجدية بل والمنطق مستندة على بطش أجهزة أمن النظام وغباوة الحكم فيضطر متلقي ال«فنكوش» الرديء لقبوله تقية وتجنباً لمشكلات كبرى.
في 6 مايو/أيار 1952 نشرت صحيفة الأهرام تحقيقا بعنوان «الفاروق يجمع بين مجد الملك وشرف النسب» تعرض فيه للإعلان الذي أصدره محمد الببلاوي نقيب الأشراف آنذاك وجاء فيه «ثبوت نسب الملك فاروق إلى «آل البيت»، وبالتحديد من سلالة الإمام «الحسين بن علي» رضي الله عنه، وثبت لنقابة الأشراف صحة هذا النسب، وأصدرت قرارا بثبوت نسب حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم إلى السلالة النبوية الشريفة».
وفي عام 2014 قال نائب نقابة الجعافرة رضا فتحي رسلان إن عائلة الرئيس عبد الفتاح السيسي هي أحد أفرع عائلات السيد محمد المغازي، أي ينتمي إلى عثمان بن حسين الفاسي، شقيق جد قبيلة الجعافرة، عبد المحسن بن حسين الفاسي، وهؤلاء جميعهم ينتمون إلى الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد الباقر، بن الإمام علي زين العابدين، بن سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب»، بحسب وصفه.
ومن قبلهم فعلها كل من: السادات وحسني مبارك وإن كان بدعاية أقل.
و«فانكيش» التقديس والنسب الشريف لآل البيت مهمة جدا في المجتمع المصري الذي غالبا ما يقدم العاطفة الدينية على السياسة، وانتساب شخص لآل البيت يطهره مما تقدم من ذنوبه وربما ما تأخر أيضا، وهو ما يجعل حكام هذه الأقوام حريصين على الانتساب لآل البيت ليصبح هذا النسب درعا يخفون وراءهم ذنوبهم التي سيرتكبونها كحكام.
وأبرز أمثلة «فناكيش» القوة كانت في الفترة ما قبل هزيمة 1967 وأثنائها ومن أشهرها «فنكوش» صواريخ القاهر والظافر والذي كان للإعلام دورا كبيرا في خداع الشعب المصري به وإقناعه بأن مصر صنعت صواريخ تصل لعمق إسرائيل، وتشكلت له إدارات وموظفين وعمال (على طريقة إدارة عموم الزير) وتم عرضه على الشعب المصري في المناسبات القومية.
ولم يكن ما تم عرضه سوى نماذج غير حقيقية، واختفى الظافر والقاهر، وتم حل إداراته وتوزيع موظفينها على أماكن مختلفة وتم تخزين ما تم إنتاجه في المخازن، حتى حرب 1967.
والاصطدام بحقيقة هذا الاختراع الذي كانت به عيوب كبيرة وكان لا يصل مداه لعمق إسرائيل كما أعلن الإعلام المصري.
وكشف الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته، أنه اضطر إلى استخدام هذه الصواريخ في الحرب باعتبارها مخزنة بلا فائدة وكان يستخدمها بحظر شديد، ولم يسفر استخدامها عن أي نفع في الحرب.
وأثناء هزيمة يونيو 1967 روج الإعلام المصري «فنكوش» دعاية النصر الوهمي ببيانات عن سقوط مئات الطائرات الإسرائيلية بينما كانت طائرتنا محترقة في المطارات قبل تحركها، وكانت القوات الإسرائيلية تتقدم وتحتل أرض عربية.
بعد هزيمة 1967 لم تغب مرارة الهزيمة عن الشعب المصري لحظة وخاصة بعد وهم القوة الذي عاش فيه بفعل الدعاية المبالغ من آلة الإعلام الرسمية والتي صورت إسرائيل كقزم أو حشرة سنلقيها بسهولة في البحر.
وفوجئ بهزيمة منكرة من القزم، لم تفلح محاولات الدولة إلهاء الشعب المصري بكافة الوسائل حتى استيقظ الناس يوم الأربعاء الموافق الثالث من أبريل/نيسان عام 1968 على معجزة أخرجته من كل اهتماماته واستولت على وجدانه؛ حيث أطلت العذراء مريم على مصر بوجهها وتحيط بها الطيور فوق كنيسة العذراء بحي الزيتون بالقاهرة.
وفورا اعترف المجمع المقدس للكنيسة وسجلها التاريخ الكنسي ولجان كنسية وشهادات للشهود، وانكسرت مظاهر أزمة الهزيمة ومرارتها، وانشغل المصريون بالعذراء وبمتابعة معجزاتها.
ولا أريد أن أخوض في مناقشة مصداقية هذا الحدث الذي ظهر في هذا التوقيت بالذات، ولكن يكفي أن أقول لكم إن كل شعب في العالم يتصور شكل العذراء، التي لم يتم تصويرها، طبقا لمواصفاته الجسمانية وشكله.
ولهذا عندما تتابع ظهور العذراء بعد ذلك في بلدان مختلفة كانت تظهر بوجه يشابه وجه أهل المكان فظهرت بوجه أسمر تارة وأبيض تارة أو وجه آسيوي، حسب موقع الكنيسة التي ظهرت فيها.
وتتابعت بعد ذلك فناكيش شجرة لا إله إلا الله و«زلطة» الحمد لله، وكان الإعلام الرسمي حريص على الترويج لها آنذاك.
والـ «فناكيش» الآن تتميز بأنها لا تحتاج للتفكير أو للتدابير أو للإتقان فيكفي أن يتلقى الإعلام إشارة الكبير بقرار أو رغبة في إلهاء المجتمع بموضوع ما فيظهر الـ «فنكوش» دون أي إرهاق ذهني لمخترعه، فقط يتم توجيه إلى حيث يكون الهدف ورغبة الكبير.
ففي لحظة التأكيد على شجاعة الكبير ظهر «فنكوش» أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي من خلال عملية ومغامرة قادها الكبير بنفسه، وابتلعها الشعب المصري تجنبا للمشاكل.
وعندما كانت الرغبة توجيه الناس لكراهية فصيل اتخذه الكبير هدفا له ومبررا لكل تصرفاته، ظهر «فنكوش» إطلاق الإخوان للتماسيح في شوارع القاهرة.
وعندما رغب الكبير في وضع مصر في مجال الصدارة العلمية في العالم دون وجود أي سند لذلك ظهر «فنكوش» اللواء عبد العاطي كفتة الشفاء من الإيدز.
وظهر المخترع الصغير الذي يعدل موتور طائرة وعمره 3 سنوات، والمخترع الصغير الذي اخترع جهازاً يحاور الهرة ويعزمها على العشاء فتقول له انتظر هناك هرر أخرى قادمة في الطريق!!
وعندما يرغب الكبير في إحراز انتصارات وهو محاط في كل المجالات بالهزائم والفشل يحتفل بدخول الفريق المصري كأس العالم احتفال الفائزين قبل لعبه مباراته الأولى في استباق للنتيجة المعروفة، وهي خروج الفريق من البطولة في المراحل الأولى، ومن العجب أن احتفال مصر بفريقها القومي المهزوم فاق احتفال فرنسا بفريقها الحائز على البطولة.
حقا إنه عهد الـ «فنكوش» الرسمي وتكبير الدماغ الشعبي.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
