قيس تونس وأسئلة الياسمين
بين الفرحة والترقب ينظر التونسيون إلى واقع بلدهم ومستقبله وهم يتأهبون لأخذ الخطوة التالية مع رئيس لا يعرفون عنه أكثر من أنه واحد منهم، هي نشوة نجاح حين يرى التونسي الموجة الثانية لثورته وقد جرفت في طريقها الطبقة السياسية بنخبها وتحيزاتها واصطفافاتها، لكن الجماهير لا تنسى أنها أمام واقع جديد، الأسئلة فيه أكثر من الأجوبة، وخريطة المستقبل تبدو شبه صماء، الخطوط فيها قليلة، والتفاصيل تنتظر مهارة التشكيل حين يعرف الرسام في أي مداد يجب أن يغمس ريشته.
من حسن الطالع أن يقفز إلى الصدارة مع لحظة ثورية أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد في بلد أكبر قضاياه وتحدياته تتعلق بمحاربة الفساد، ولكن كيف سيدار الملف الأمني؟ وكيف سترسم تونس سياستها الخارجية وكيف ستحدد موقعها في صراع المحاور؟ هذه وأسئلة أخرى سنقف عندها في سلسلة مقالات تبحر في التفاصيل بعد قراءة مجملة تمهيدية.
“انتهى عهد الوصاية”.. هكذا يستهل أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد خطابَه الأول إلى شعب تونس، عقب فوزه برئاستها، مستقلا، يدعمه خزان الشباب الانتخابيّ، وثلة متطوعة من الطلبة الجامعيين، وبإمكانيّات متواضعة، تحت شعار: “الشعب يريد”.
بثقة الفارس النبيل، يقول سعيد إنه لم يقدّم برنامجا انتخابيا، لأنه لا يريد بيع الأوهام، بل الالتزام بما قال ووعد، “عكس وعود الأحزاب التقليدية، التي لم يكن حظ الشعب التونسي منها إلا كحظ المتنبي من وعود كافور الإخشيدي”، وفق تعبيره في مناظرته الرئاسية، مؤكدا أن الشعب سئم الوعود الزائفة.
من اليمين واليسار يأتيه تأييد العامة والخاصة حين رأوا فيه رمزا للصرامة و”نظافة اليد” والنزاهة. هو أستاذ متواضع، من الطبقة الاجتماعية الوسطى، لا يحب البروتوكولات، عُرف بمناصرته للشباب الثائر خلال الثورة التونسية واعتصامي القصبة 1 و2.
بفطرته السياسية عرف سعيد كيف يتجاوز التحيزات الفكرية، فهو يواجه موجة من الانتقادات لمواقفه المحافظة في بعض القضايا الاجتماعية، لكنه لا يبني في آرائه على المرجعيات الدينية والعقائدية، يتهمه خصوم آخرون بالشعبوية لكنه يفند أقوال مناظره بحجة الأستاذ في القانون الدستوري..
شباب مهمّش، أعماره بين الـ 18 و25 سنة، انتفض ضدّ حكم بن علي عام 2011، ولاصقهم قيس سعيد أيام الثورة، وانحاز إليهم في حراكهم الاحتجاجي وساندهم في اعتصاماتهم، ومنهم كثيرون درّسهم في كلية الحقوق وأطرهم. هاهو اليوم يفوز بالكرسي الرئاسي بأصوات أولئك الشباب أنفسهم، الذين كانوا له قاعدة أساسية في ضمان اعتلائه سدة الحكم، وكأن الأقدار تكافئه!
من مدرجات كليّة الحقوق إلى قصر قرطاج، يصل أستاذ القانون الدستوري، إلى كرسي الرئاسة بالصندوق، دون تاريخ سياسي وبلا انتماء حزبي. فالستيني المستقلّ سحق أقطاب الدولة العميقة، وشقّ طريقه إلى كرسي الرئاسة، برصيد لا يحوي غير مواقف مثيرة للجدل، وتصريحات لمعت بنبرة زهد وتعفّف، لا تشبه تلك التي يدلى بها رجال الدولة. تصريحات حرّكتها نزعة ثورية كامنة لدى شعب الياسمين..
سعيد ناقد شرس لحكومات تونس المتعاقبة، وداعم قويّ لمطالب الثورة، التي أطاحت الرئيس السابق الراحل زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011. حقق فوزا ساحقا في الدور الثاني للاستحقاق الرئاسي، في 13 أكتوبر الجاري، بنسبة 72.71% من أصوات الناخبين، أي ما يعادل قرابة مليونين و700 ألف صوت، مقابل حصول منافسه رجل الأعمال نبيل القروي على نسبة 27.29% من إجمالي الأصوات.
ملحمة انتخابية، توّجها التونسيون باختيار رئيس جديد لبلادهم، خليفة للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي وافته المنية في 25 يوليو الماضي. ولا تفصل الرجل غير أيام قليلة عن قصر قرطاج الرئاسي، بعد أن يؤدي اليمين الدستورية لتسلم السلطة بصفة رسمية، خلفا للرئيس المؤقت محمد الناصر، الذي يشغل المنصب منذ وفاة الراحل السبسي.
وسيتولى سعيّد مهامه في القصر الرئاسي عقب تأديته القسم رئيسا لتونس، في جلسة برلمانية عامّة أمام مجلس الشعب المنتهية عهدته، وستعقد في الـ23 من الشهر الحالي، وهو تاريخ يعدّ آخر يوم في الآجال الدستورية والقانونية، وفق بيان لمجلس نواب الشعب.
ليكون سعيّد بذلك، ثاني رئيس تونسي منتخب بشكل ديمقراطي ومباشر منذ ثورة 2011 وسابع رئيس في تاريخ البلاد منذ الاستقلال.
ومن المنتظر أن تشهد الجلسة البرلمانية الاستثنائية، حضور رؤساء الجمهورية والحكومة والوزراء السابقين، وممثلي الهيئات والمنظمات الوطنية، إلى جانب أعضاء السلك الدبلوماسي في تونس.
مقاربات السياسة الخارجية القادمة إلى قصر قرطاج مع سعيّد في حقببة مغلقة، ومن الصعب حتى التنبؤ بملامحها، وإلى أيّ مدى هي قريبة من خطاباته أو بعيدة عن سابقاتها..
خلّفت مواقف قيس المعلنة مخاوف لدى البعض من انجراف تونس خارج مسار دبلوماسيتها شبه الثابتة التي رسم ملامحها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بمرتكزاتها الأساسية القائمة على عدم الاصطفاف في المحاور الدولية والإقليمية..
صحيح أن مواقف سعيد في الشأن الخارجي برزت جليّة مثلا في مساندته القويّة لـ”تجريم التطبيع” مع إسرائيل، ووصفه بـ”الخيانة العظمى” والدعم المطلق للقضية الفلسطينية، فضلا عن دعوته إلى أن تكون تونس “قوّة اقتراح” لحلّ النزاعات في ليبيا وسوريا، معلنا في الوقت عينه أن الجزائر أولى محطاته الخارجية، فور تسلمه لمنصبه.
لكن في المقابل رأى خبراء ودبلوماسيون تلك التصريحات مجرّد آراء قد لا تخرج في خطط، مؤكدين أن السياسة الخارجية لتونس لن تشهد تغييرا جذريا في العهد الجديد، كون ثوابت الدولة قائمة على تعهدات خارجية، لن يتمكّن الرئيس الوشيك من الابتعاد عنها.
ملفات مثقلة تحيط برجل القانون، وتنتظره هناك في أعلى هرم السلطة، بعدما انتزع مقعد الرئاسة من أحزاب الصف الأول، إذ إن تلك الملفات هي نفسها التي أخرجتهم أو أحرجتهم، ومهما يوصف حالهم فسيجلس قيس حاكما للبلاد خمس سنوات غير قابلة للتجديد إلا مرة واحدة، وفي إزائه ترقّب شعبي لما سيقدّمه الرجل لتونس، وما سيحققه من تطلّعات الشعب.
وفي صدارة التحديّات قبل السياسة الخارجية كما أشرنا، يقف الملف الأمني أمام الرئيس الجديد، بوصفه قاعدة محورية للنهوض باقتصاد البلاد، واستقطاب المستثمرين الأجانب والسياح.
وعلى طاولة الرئيس أيضا ملفات الفساد والفقر والبطالة، والأول توعد سعيّد بمحاربة مسؤوليه وبإطفاء بؤره، والآخران أيضا تعهّد بمكافحتهما، وكل واحد من الثلاثة سبب محتمل ونتيجة ممكنة للأخرى، وجميعها تدور في مدار سائر التحديات الاقتصادية.
وكيف ستترتب أوراق اللعبة في حسابات الشراكات والخصوم؟ وهنا تبرز أولى مهام سعيّد في حشد دعم سياسي، وضمان كتلة نيابية تكون له شريكا فاعلا، في خطط إنعاش الاقتصاد، ومكافحة البطالة والفساد وعجز الخزانة، وتحسين الوضع الأمني، أو حتى في تنفيذ مقاربته عن لامركزية السلطة ونقلها إلى الشعب خطوة غير هينة في ظل مشهد برلماني فسيفسائي دون أغلبية واضحة تحسم القرار بين كتله.
وسيكلف السعيّد المنتظر الحزب صاحب الكتلة الكبرى في البرلمان بتشكيل الحكومة الجديدة، وهي حركة النهضة الحاصلة على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المنعقدة في 6 أكتوبر لكن هل يفلح النهضويون في جمع التحالفات الكافية لتشكيل الحكومة أم ستتاح أمام سعيد فرصة أخرى لتحقيق انتصار جديد حين يضع الأحزاب والنخب في موقف أقل بهاء من هزائمهم..
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه