الصراع التاريخي بين مصر وإثيوبيا على مياه النيل

سد النهضة الإثيوبي

مايجري الآن يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية البانية للسد تدعمها دوائر تريد تحويل الماء لسلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها لإسرائيل، وتحويل السد لأداة سياسة وتجفيف وتجويع مصر.

ظل النيل عبر العصور هو محور الأمن القومي المصري، وسواء كان الحكم مصريًا أو احتلالا أجنبيا، قديما أوحديثا، لم يفرط في النهر الذي يعتبر شريان الحياة للشعب المصري، وبدونه تنهار الدولة كما حدث في المجاعات التي ضربت مصر بسبب عدم قدوم الفيضان.
ما رأيناه من تفريط في النيل وتوقيع عبد الفتاح السيسي للإثيوبيين بالموافقة على بناء سد النهضة الذي سيحجز مياه الفيضان يتناقض مع كل ثوابت الأمن القومي المتوارثة، ويشكل تهديدا خطيرا لبقاء الدولة المصرية.
لا يمكن لدولة أن تتناسى التاريخ والجغرافيا وهي تتعامل مع قضايا استراتيجية وفي مقدمتها الماء مصدر الحياة، ولا يمكن تمرير الانقلاب على أسس التفكير المنطقي في أهم شأن يهم المصريين ومستقبلهم، ولا تفاوض حول الحق في شربة الماء.
على جدران المعابد الفرعونية توجد صور الحروب التي خاضها الفراعنة، وتظهر الانتصارات التي حققتها الجيوش المصرية لتأمين منابع النيل، وتنتشر صور الأسرى من بلاد النوبة ومملكة كوش ومن القرن الأفريقي وكيف أخضع الملوك المصريين وادي النيل.

الفراعنة ونهر النيل

كانت كوش هي نهاية الممالك الجنوبية حتى منابع النيل، وما بعدها قبائل بدائية متناثرة تخضع لنفوذ دولة النوبة، وكانت علاقة مصر بسكان وادي النيل ودية في فترات وعدائية في بعض الأحيان؛ لدرجة أن الكوشيين عبدوا الفرعون المصري سنوسرت الثالث أبرز ملوك الدولة الوسطى فاتح كوش حتى الشلال الثالث.
 التاريخ الفرعوني يوضح أن أحمس أول ملوك الأسرة 18 تمكن من تحرير مصر من الهكسوس بمعاونة الكوشيين، إلا أن تحتمس الأول ثالث ملوك هذه الأسرة غزا بلاد كوش بسبب تمردها، وانتصر عليها وولى على البلاد التي فتحها أمراء نوبيين.
وفي عهد الأسرة 19 سجل الملك رمسيس الثاني انتصاراته على الحيثيين والكوشيين، وتجسد الصور المحفورة على الحجارة قوة الدولة المصرية وتغلبها على الأمم الآسيوية والأفريقية، ومنها صورة لأمير كوش وهو يقف ذليلا أمامه.
لقد دامت سلطة مصر على وادي النيل حتى الشلال الرابع حتى نهاية فرعون موسي وغرق الجيش المصري في البحر الأحمر، حيث انشغل المصريون في عهد الأسرة 20 بالفتن الداخلية والحروب مع آسيا، وبدأ نجم الكوشيين يعلو في مصر في نهاية الأسرة 22 ونجحوا في الاستيلاء على الصعيد في آخر الأسرة 23 ثم حكموا مصر كلها عندما بدأ الزحف النوبي الكبير بقيادة بعنخي الذي سيطر على كل الأراضي المصرية لتبدأ الأسرة 25 النوبية وكان من أشهر ملوكها طهراقة.

إثيوبيا ليس لها تاريخ حضاري

لم يكن لإثيوبيا أي حضارة في العصور القديمة، ولم يكن لهم ذكر في عصور مصر الفرعونية، ولم يكن بعد كوش حتى منابع النيل ممالك أخرى، وما ورد في كتب علماء المصريات الأجانب من وصف النوبة وبلاد كوش بأنهم إثيوبيين ليس صحيحا، وترجع هذه التسمية لكتب الإغريق القديمة التي كانت تصف السكان ذوي البشرة السوداء من أسوان وما بعدها جنوبا من ممالك السودان بالإثيوبيين.
كان الأحباش وهم خليط من قبائل وثنية يتحدثون لغات متنوعة يعيشون فوق الهضبة الإثيوبية متفرقين، وكان أول ظهور لمملكة أكسوم الحبشية في القرن الأول بعد ميلاد المسيح، واتسعت مساحتها في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك عيزانا الذي هزم مملكة مروي السودانية واعتنق المسيحية على يد الرومان، وامتد حكم الحبشة إلى اليمن على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
دخل الأحباش إلى اليمن عام 525 م، بعد واقعة قتل نصارى نجران على يد ملك حمير ذو نواس الذي اعتنق اليهودية، واستمروا في اليمن حتى قبيل ظهور الإسلام بسنوات وتم طردهم على يد الفرس، وقص لنا القرآن الكريم قصة إبرهة الأشرم في سورة الفيل، الذي بنى كنيسة أسماها القليس، وأراد أن يحج لها العرب؛ ولهذا قرر هدم الكعبة فسلط الله عليهم الطير الأبابيل وكانت القصة المشهورة.
وفي عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان ملك الحبشة النجاشي، الذي استقبل الصحابة في هجرتهم الأولى، واستمع منهم للقرآن، ووفر لهم الحماية، وتشير كتب السيرة إلى أنه أسلم بعد ذلك وصلى النبي عليه صلاة الغائب، وبسبب هذه العلاقة الودية لم يسع المسلمون الأوائل لفتح بلاد الحبشة.

حملات الخديوي إسماعيل

أراد الخديوي إسماعيل أن يكمل ما بدأه جده محمد علي، الذي مد الحكم المصري إلى شرق السودان ووصل إلى حدود الحبشة، وقرر إسماعيل الوصول إلى منابع النيل، ولكنه اعتمد على الأجانب الذين ورطوه وتآمروا عليه وغدروا به في النهاية.
عين إسماعيل الإنجليزي صمويل بيكر رئيسا لحملة الكشف عن منابع النيل، وخلفه جوردون الذي حكم كل السودان المصري بعد ذلك، فدرس الإنجليز المنطقة جيدا واستغلوا السلطة المصرية في وضع أقدامهم في منابع النيل والقرن الأفريقي، ثم طرد مصر من هناك بعد احتلال القاهرة والقطر المصري.
تورط إسماعيل في حروب لم يستعد لها مع الحبشة، بسبب استجابته لمجموعة من المغامرين الأمريكيين والأوربيين الكاثوليك الذين أوهموه بأنهم يريدون مساعدته في فتح بلاد الإثيوبيين الأرثوذكس. 
من الأسباب التي شجعت الإنجليز لاحتلال مصر هزيمة الجيش المصري في إثيوبيا وخسائر القوات المصرية، وضياع هيبة الجيش المصري الذي حقق انتصارات كبرى تحت قيادة إبراهيم باشا، وكما يقول الرافعي في كتابه “عصر اسماعيل” بأنها “الحرب العقيم والعقبة الكأداء التي أتت بالهزيمة والخسران”. 

حروب مصر في الحبشة 

وصلت القوات المصرية إلى الصومال وضمت السودان للحكم المصري، ووافقت مملكة أوغندا على التبعية لمصر، وكان الحلم الذي راود إسماعيل هو أن يجعل النيل كله مصريا بعد ان أحاط بالحبشة من كل الجهات، فأغراه المرتزقة الأجانب الذين كان يعتمد عليهم وعينهم قادة للجيوش المصرية، وأوهموه بأن فتح الحبشة سهل بقوات صغيرة فكانت الهزائم المتتالية.
في عام 1875 استطاع الكولونيل الدانمركي أندروب إقناع اسماعيل بفتح الحبشة فوافق له ومعه أراكيل بك الأرمني بتكوين حملة تتكون من 3200 مقاتل وبطاريتين من المدافع، فاستعد لها الملك الإثيوبي يوحنا في جونديت ومعه 30 ألف جندي، وانتصر على المصريين، وغنم أسلحتهم وذخائرهم.
الحملة الثانية متزامنة مع الأولى قادها المسيو متزنجر السويسري الذي عينه الخديوي محافظا لسواحل البحر الأحمر وشرق السودان، لتأديب الملك الإثيوبي، تتكون من 2000 عسكري، وحاول متزنجر استغلال الخلافات بين الزعماء الإثيوبيين فوقع في فخ نصب له، وتم القضاء على الحملة والاستيلاء على أسلحتهم في كمين محكم في عدوة.
فلما علم الخديوي بالخسارة أصر على الانتقام فجرد جيشا يتكون من 15 ألف مقاتل وأربعون مدفعا بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال الأمريكي وليم لورنج الذي شارك في الحرب الأهلية الأمريكية وتم تعيينه رئيسا لأركان الجيش المصري، فاستعد الأحباش بجيش يتكون من 300 ألف مقاتل بقيادة يوحنا الذي أعلنها حربا مسيحية ضد الإسلام، ففتكوا بالجيش المصري في قرع في مارس 1876 وقتلوا منهم 10 آلاف وأسروا 267 رجلا وغنموا بنادق القتلى والمدافع والذخائر.
وكان الزعيم احمد عرابي مشاركا في الحملة، مسؤلا عن المهام الإدارية إلا أنه تم استبعاده في بداية الحملة بسبب خلافات مع قائد شركسي، وقد حكي في مذكراته تفاصيل الخيانة التي قام بها القادة الأجانب للجيش المصري وتحالفهم مع الأحباش للقضاء على المصريين، وأشار عرابي إلى أن جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين ألقوا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم وريطوا في أعناقهم مناديل بيضاء دلالة على أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم عند اختلاط الجيشين حسب الاتفاق مع قس كاثوليكي كان حلقة الوصل مع الأحباش.
ومن العجيب أن الملك يوحنا الذي هزم المصريين تلقى هزيمة ساحقة بعد ذلك، في عام 1889 أمام السودانيين الذين قتلوه ومزقوا جيشه بسبب النزاع على الحدود، وعثر المهديون على جثة يوحنا وقطعوا رأسه وأرسلوها إلى أم درمان، حيث وضعوها على قصبة وطافوا بها في في الشوارع. 

خطط تحويل مياه النيل

حرمان مصر من مياه النيل كان هدفا للقوى الأوربية المعادية، التي فكرت في منع النهر من الوصول إلى مصر لتعطيش وتجويع المصريين، وهذه بعض الوقائع توضح كيف أن منع وصول النيل إلى مصر كان هدفا قديما للصليبية الغربية:
الواقعة الأولى في بداية القرن السادس عشر مع قدوم البرتغاليين إلى المنطقة حيث لم يكتف الاستعمار البرتغالي بخنق مصر اقتصاديا وضرب الملاحة في المحيط الهندي، والقضاء على الحركة التجارية للعرب والمماليك؛ ففكروا في تعطيش المصريين وحرمانهم من النيل!
ففي عام 1513 دخل القائد البرتغالي البوكيرك البحر الأحمر وقال في مذكراته إنه اتفق مع ملك الحبشة -الذي تحرق شوقا- لتحويل مجرى النهر ليحرم مصر من الماء، وانتظر في جزر كمران لحين وصول مجموعات كبيرة من العمال التي طلبها من جزر ماديرا لقطع صخور البحر الأحمر وتحويل مجرى النيل الأزرق.
لكن أحلام البوكيرك تحطمت عندما قرر التوجه إلى جدة لغزو المدينة المنورة ونبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمساومة المسلمين على مبادلة الجثمان الشريف بكنيسة القيامة بالقدس، حيث جاء العقاب الرباني وهاجت العواصف على الحملة ودمرت بعض السفن، وشاهد البرتغاليون شهابا لامعا يخرج من ناحية الحجاز، يشع منه وهج ولهب توقف فوق الأسطول ثم اتجه ناحية الحبشة، فسيطر الرعب على البوكيرك وجنوده، فقرر الرجوع الى الهند مذعورا، وكتب هذه الواقعة في مذكراته.
الواقعة الثانية هي اتفاق لويس الرابع عشر ملك فرنسا عام 1705 مع ياسو ملك الحبشة على تحويل مجرى النيل الأزرق، وأرسل المسيو لانوار دي رول محملا بالهدايا للقيام بالمهمة فأرسل المصريون إلى مملكة سنار فتم اعتراضه وقتله ومن معه، وكانت الواقعة سببا في حرب بين الحبشة وسنار انتهت بهزيمة الأحباش.
الواقعة الثالثة أثناء النزاع بين مصر وإثيوبيا في عهد الخديوي سعيد على الحدود الشرقية للسودان حيث كتب القنصل الفرنسي في مصر بنديتي في رسائله إلى حكومته في نوفمبر 1856 أن الامبراطور الإثيوبي تيودور يهدد بالإغارة على السودان المصري ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله صوب البحر الأحمر!
والواقعة الرابعة مع الاستعمار الحديث بعد سيطرة الإيطاليين على الحبشة عام 1936 حيث فكروا في تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر ومنعها من الوصول الى مصر، لكنهم اصطدموا بالتضاريس التي جعلت عملية التنفيذ ليست بالسهولة التي توقعوها، كما أن الإنجليز لم يمهلوهم وتدخلوا وأخرجوا إيطاليا من إثيوبيا عام 1941.
هذه النظرة السريعة إلى التاريخ القديم والحديث تكشف لنا أهمية النيل لمصر والمصريين، وكيف كان حكام مصر ينظرون إليه كمحور رئيس للأمن القومي وشنوا من أجله الحروب، كما توضح كيف استهدفت الدول المعادية النهر للقضاء على القوة المصرية.
ما يجري في الوقت الحاضر يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية التي تبني السد تقف خلفها دوائر تريد امتلاك النهر وتحويل الماء إلى سلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها إلى “إسرائيل” وأيضا تحويل السد الإثيوبي إلى أداه سياسية يتم توظيفها لتحقيق أهداف استراتيجية تصب كلها في تجفيف مصر وتجويع أهلها والقضاء على الدولة التي ارتبطت الحياة فيها بالنيل منذ ظهور الحضارة على الأرض.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان