لغز قروي تونس وسعيّدها
تعيش تونس لحظات فارقة على أعتاب مرحلة سياسية جديدة، ويبدو الناخب التونسي أمام اختبار القرار النهائي في مواجهة المعطيات الغامضة والأسئلة الحائرة وهو يرى وطنا يخطو خطوته الحاسمة في حالة من قلة اليقين وضبابية الاحتمالات، فهل تصنع الثورة نموذجها بمنأى عن النخبة السياسية التي خرج الشعب ضد أفكارها ومشاريعها؟ أم تلك رعونة التجارب الأولى وإخفاقات الخبرة الناقصة واندفاعات وتهورات الغضب تصيب الشعوب كما تصيب الأفراد؟
المستقل الستيني الأكاديمي الملقّب بـ “روبوكوب”، بسبب قساوة ملامح وجهه وجمودها، وتحدثه باللغة العربية الفصحى، يغازل الصناديق بمعجم الأطلال والرمال وبلا إمكانيات مالية أو “ماكينات” إعلامية ولا حتى حملة انتخابية، ولكنه حقق ما فشلت في تحقيقه الأحزاب.
والآخر رجل الأعمال الخمسيني والمؤسس لحزب “قلب تونس”، استطاع أيضا اللحاق بالـ “روبوكوب” واجتياز الجولة الأولى، وهو قابع وراء القضبان، منذ 23 أغسطس/آب 2019، بتهمة غسل الأموال والتهرب الضريبي، قبل عشرة أيام من بدء الحملة الانتخابية.
وأولهما هو المتصدّر للدور الأول في الاستحقاق الرئاسي قيس سعيّد بـ 18.4% من أصوات الناخبين، يليه نبيل القروي بـ 15.6 %، وفق الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، من بين 24 مرشحًا، بينهم الرئيس السابق للجمهورية، ورئيس الحكومة الحالي، ورئيسان أسبقان لها، وأيضا مجموعة من الوزراء السابقين ورئيس مجلس النواب.
نطق الصندوق بأقسى رد على الطبقة السياسية برمّتها، وأقصى الدائرين في مدارها المتصدرين للمشهد منذ 2011، معلنا استمرار هبوب رياح الثورة التونسية وربيعها.
ماراثون انتخابي، شارك فيه التونسيون بعد حوالي تسع سنوات على ثورة الياسمين، وخمس سنوات على أوّل انتخابات شفافة في تاريخ بلادهم، وفي أعقاب رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي في 25 يوليو الماضي.
نعم، صوّت الناخبون، لكنهم صوتوا لوجوه جديدة ضد مرشحي الصف السياسي، بكل رموزه وأحزابه، وحجّتهم وفق بعضهم عدم أهلية أولئك للمناصب التي كانوا يترأسونها، وضعف مردوداتهم على الشعب والبلد طوال السنوات الأخيرة، وحصاد أوفرهم حظا حصاد “هزيل”.
أمّا رأي الصندوق فهو يأتي امتدادا لغضب الشارع خلال أعوام، من ارتفاع نسبة التضخم، واستمرار البطالة، خاصة في صفوف الشباب من خرّيجي التعليم العالي، إلى جانب ضعف الدخل وغلاء المعيشة.
“إنها تشبه ثورة ثانية.. وما حصل يحملني مسؤولية كبرى لتحويل الإحباط إلى أمل”.. بلغة غير نمطية وفصحى لا تفارقه، كانت تلك أولى كلمات قيس سعيد، فور الإعلان عما أفرزه الصندوق في السباق الانتخابي.
الرجل المستقل، أستاذ قانون دستوري، نجح مع درجة خبرة “صفر” وصورة مرتبطة بالوفاء للثورة، في حشد أكثر من ثلث الناخبين، بين 18 و35 سنة، أملا منهم في التغيير وإنقاذ البلاد من أذرع الدولة العميقة.
فالمحافظ صاحب الشخصية المثيرة أحبه الشباب لارتباط صورته بـ “العفة السلطوية” و”الثورجية”، فيما يخشاه آخرون، ظنا منهم أنه قد يمثّل تهديدا لمكتسباتهم في مجال الحقوق والحريات الفردية وإنجازات الجمهورية في السنوات الأخيرة، معلّلين ذلك بآراءٍ له وصفوها بالمتشددة في هذا المجال.
وغير بعيد عنهم، اتهمه خصومه بالتطرّف، وعزوا ذلك إلى رفضه المعلن للمساواة في الميراث بين المرأة والرجل، وهي من المسائل الشائكة التي أثارت جدلا واسعا في البلاد، فضلا عن معارضته لإلغاء عقوبة الإعدام وعقوبة المثلية الجنسية، إضافة إلى دعوته لتكريس السلطات المحلية عبر تعديل دستوري.
من صانع للرؤساء إلى مرشح للكرسي الرئاسي، لينتهي به المطاف في زنزانة بالمرناقية (قريب من العاصمة). هو نبيل القروي، رجل الأعمال وصاحب قناة “نسمة”، الذي مازال القضاء التونسي يرفض الإفراج عنه، بشبهة غسل وتبييض الأموال، على خلفية شكوى تقدّمت بها منظمة “أنا يقظ” غير الحكومية قبل نحو 3 سنوات.
وعرف الرجل بشبكة علاقاته مع سياسيين دوليين ومحليين، أبرزهم رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، ورجل الإعلام العالمي التونسي طارق بن عمار، وعلا صيته أكثر من خلال جمعيته “خليل تونس” للأعمال الخيرية، التي كانت بوابته لبناء قاعدة انتخابية لافتة، رافعا شعارات محاربة الفقر وتقديم المساعدات إلى المهمشين وضعفاء الحال من المناطق الداخلية والريفية.
يعتقد كثيرون أن تصدّر القروي لواجهة المشهد تعود إلى عام 2016 عقب وفاة نجله خليل، بيد أن ذلك غير صحيح، فرجل الإعلام والتسويق بامتياز كان من أبرز الفاعلين في اللعبة السياسية بعد ثورة يناير 2011، وكان عراب السياسيين الطامحين لاعتلاء عرش قرطاج والقصبة، قبل أن يقرر بعدها خوض غمار الرئاسيات، رغم توقيفه قبل أيام قليلة من الحملة الانتخابية.
المترشح المسجون تأهل إلى الجولة الثانية للوصول إلى قصر قرطاج وهو قابع في سجنه، ليُدخل البلاد في مأزق قانوني غير مسبوق، وتُطلق صورتُه المهتزة بتهم الفساد سيل تساؤلات وسيناريوهات.
يلي صدمة الصندوق لغزٌ قانوني يتهدد الاستحقاق القادم، ويعلق المشهد أمام سيناريوهات عدة، مصائرها جدلية إن لم تكن مجهولة، فهناك مترشح مسجون، يلف الغموض وضعه القانوني مع تداعيات غير متوقعة على المسار الانتخابي، وسط غياب محكمة دستورية.
وإنْ بقي القروي سجينا في الجولة الثانية، فإن خبراء قانون يرون أن فوزه بالدور الأخير لن يمكنه من التمتع بالحصانة ولا تأدية اليمين ليكون رئيسا حتى يصدر عليه الحكم، وهو أمر يقول آخرون خلافه، محتكمين إلى الفصل 87 من الدستور المتعلق بحصانة الرئيس.
ويرجّح البعض سيناريو الفراغ الرئاسي، فرغم بُعد هذا الاحتمال، فإنه يعدّ أسوأ من سابقه، وهو قائم في تقديرهم إذا ما صدر حكم قضائي ضد القروي عقب فوزه، وعندها يصبح مقعد الرئاسة شاغرا، وفق الفصل 84 من الدّستور، ومن ثم تعاد مجددا الانتخابات بحجّة عدم قدرة الرئيس على أداء اليمين الدستورية أمام البرلمان.
مأزق القروي تقابله عقبة سعيّد، وهي وإن كانت لا ترقى إلى التعقيد المصاحب لحال نظيره فإنها تكفي لبناء مرحلة جدلية بتقلبات غير متوقعة، فالأخير الذي يجذب معسكر المحافظين والإسلاميين، سيتعيّن عليه تجاوز معضلة بناء تحالفات جديدة تعيد رسم الخريطة السياسية التونسية، وتدعم قراراته للتغيير في البرلمان.
وأخيرا، يتدخل الزمن وترتيب الأحداث القادمة في صناعتها بشكل فارق، وتراوح المرحلة المقبلة على تونس بين قانوني ومتهم بمخالفة القانون، مرشح رئاسي غامض، ورجل أعمال قابع في زنزانته، وقضاء إداري يصارع سابقة قانونية تعدّ الأولى من نوعها وألغام قانونية وقضية فساد مالي معقدة، غير أن تونس التي بدأت ثورتها وأكملتها، مازال خيارها في يدها أمام أي احتمال.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه