في العراق.. النصر لا يقبل التجزئة

 

كانت راية ساحة التحرير وهتافات أهلها المنظمين طيفا متكاملا للمطالبة بالتغيير، قد علت مع لحظة إعلان فوز منتخبهم الكروي على منتخب إيران في نطاق تصفيات المجموعة الثالثة للتأهل لبطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022 قبل أن تعلو صور اللاعبين. أي وعي هذا الذي ينتظم عليه شعب أصر على أن انتصاره لم يعد قابلا للتجزئة.

تجبرني تلك اللحظة أن أخصص مقالي بين السياسة والرياضة رغم أنني أحب من الرياضة فقط مظاهر فرح متابعيها ومناكفات وجدالات محبيها.

حقيقة لم أكن أعرف أن مباراة بهذه الأهمية ينتظرها العراقيون إلا قبل يومين وذلك من خلال منشورات وتغريدات زملائي الصحفيين العراقيين المنتشرين في أرض الله وبين مؤسساتها الصحفية والإعلامية.  أشاركهم أحيانا بإعجاب عن حالة أو وصف لا أعلم مدى دقته لكن إعجابي حقيقة للعراق رياضة وفنا وأدبا. والأهم وعيا بالحرية والكرامة والتحرر.

الأنفاس المحبوسة…

شيء من الوقت هدأ فيه ضجيج الرسائل ورنات المجاميع الإلكترونية بمختلف المسميات إلا من متفرقات غير معتادة توضح أن جمهور التواصل الاجتماعي قد انقطع لمتابعة كرة القدم بين الفريق العراقي والفريق الإيراني. لحظات تبين معنى أن تكون الأنفاس محبوسة والتي معها تتعطل لغات كثيرة متعلقة بانتظار حدث مهم. بالمناسبة إذا كانت الرياضة فجرت لحظة كتابة هذا المقال هذا لا يعني أن حديثا في السياسة وما يجري في العراق لم يكن حاضرا. بل إن الحدث العراقي اليوم يكاد يتداخل في كل مشاهده. إنها نسمات الحرية والانعتاق التي بدأت تأخذ أدوارها في جميع مظاهر وثنايا الأداء العراقي الذي أعلن قبوله حالة التحدي لكسر القيود التي كبلت مسيرته المثخنة بجراج الارتباك والفساد والطائفية.

الكثير من العراقيين كان ينتظر نصرا محفزا ليضاف الى معنويات شعب تلتحم صفوفه في ميادين وساحات بغداد والعديد من المحافظات في انتفاضة شعبية يتزايد زخمها يوما بعد آخر. يقول أبطالها إنها انتفاضة تحقيق المطالب بنظام عادل تحكمه الإرادة الموحدة وقد أعلنوا ألا تراجع عن الهدف المنشود.

 ويبدو أن رسالة جماهير ساحة التحرير الممتلئة بالأحرار قد استلهمها لاعبو المنتخب العراقي في ملعب عمان ليسطروا منازلة رياضية ما كان لهم أن ينتزعوا فيها الفوز لولا الفكرة المعنوية التي كانت سر هذا الإنجاز أمام الفريق الإيراني المعروف بمكانته الكروية على المستوى الآسيوي والعالمي وهذا هو سر الإرادة عندما تتحرر من قيودها.

فوز رياضي يدخل في صميم الحبكة السياسية الجارية على أرض العراق. ففيما أخفق السياسيون العراقيون منذ عام 2003 بارتماء العديد من كتلهم السياسية والحزبية في أحضان السياسة الإيرانية وغير الإيرانية. ذلك الارتماء الذي كان نقطة البداية في إضعاف دور العراق في لملمة أثار جراح الاحتلال الأمريكي له. ليصبح مشهد العراق مثقلا بنفوذين بل بنفوذ متعدد الأطراف كله بطعم الحنظل. ليخضع البلد الى شتى فنون القهر الإقليمي والعالمي.

الرياضة قطاع لا يقل أهمية عن القطاعات المجتمعية والإنسانية اليوم. وهو متداخل حكما وواقعا في تحريك منظومة التفاعلات الكلية لأي مجتمع. ولعل فوز المنتخب العراقي أعطى رسائل كثيرة ومهمة ومن أبرزها. إمكانية النصر بالمعنويات وشحذ الهمم أكثر من الماديات. فليس المنتخب العراقي أفضل إعدادا وجاهزية واهتماما من المنتخب الإيراني.  إذ المنتخب العراقي يعيش أزمة الوطن كجزء من المكون العراقي. وتدور حول اتحاداته منظومة الفساد نفسها التي تدور حول القطاعات الأخرى. ويكفيه أنه المحروم من اللعب دوليا على أرضه وبين جمهوره بسبب القوانين الرياضية الدولية.  وإن استطاع كسرها أحياننا، فإن الكثير من الدول ترفض لقاءه على أرضه بسبب ما يدور في العراق.

منتخب العراق عرف كيف ينتصر.. عرف كيف يستثمر أداة النصر المتمثلة بالإرادة الحرة التي استلهمها من أرواح شهداء الحرية في صفوف الثائرين على الظلم والقهر والفساد. ليرسم مع أنفاس الثائرين الذين يبيتون الليل ببرده في ساحات العراق لا يأمنون غارات مجاميع السلطة القمعية متواصلين مع مشقة نهاره. ليرسم بهم جميعا لوحة فوزه على المنتخب الإيراني.

لا يدوم

يتساءل العراقيون اليوم ماذا لو كان سياسيو العراق بهذا القدر من التحدي المستلهم من تحدي الرياضيين في العطاء والإصرار على النجاح؟ أليس من الطبيعي على السياسي الحر أن يكون بمستوى التحديات التي تمر بالأوطان والأمم؟ أم أن حالة الانكشاف لم تعد قابلة للتغطية والتستر عليها وقد سقطت جميع الأقنعة وفشلت جميع الحجج بعد أن وصل حال العراق الى ما وصل إليه اليوم. إنها الرسالة المضافة التي مفادها، أن النصر ممكن تحت لواء الحرية والعزيمة والهمم. النصر الرياضي لشباب العراق وجميع فئاته هو نصر للإرادة ونصر وتفسير لمعنى الحرية.

وسيجد السياسيون أنفسهم عما قريب على يقين بأن منظومة التفوق لابد وأن تنتظم جميعا بكل قطاعاتها. وأن تخلف أي قطاع قد يؤثر لفترة من الزمن لكنه لا يدوم. وهذا حال منظومة الحكم السياسي بأحزابه الفاسدة التي تخلفت كثيرا عن الوعي الجمعي للعراقيين. ذلك ما يعطي بوادر سقوط أداة الحكم المتراجع أمام أداة الوعي العراقي وهذه هي النتيجة الطبيعية التي جاءت مع فكرة عدم قدرة السياسيين العراقيين على مضارعة نمو الوعي. هذا ما يفسر افتقار السياسيين العراقيين بأحزابهم الى المكافئ الفكري والعقلي لإدارة المجتمع العراقي وتحقيق آماله وطموحاته. ذلك الفقر الفكري والإفلاس السياسي الذي يدفع السلطة الى استخدام قوة السلاح وآلة البطش الغاشمة باعتبارها أداة التسلط التي ستكون السبب المباشر لنهايتهم أمام شعب قد أعلن موقفه بأن لا بديل غير انتصار إرادته. وأن النصر لا يقبل التجزئة.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان