خواطرمواطن قلق في وطن مرتبك

هذا الانبهار والحب للفكرالاشتراكي لم يمنعني من الاعتراف بصدمتي بعالم من المتناقضات في المجتمع المصري وخاصة السياسي متناقضات شملت كل الاتجاهات والأيديولوجيات

 

الحياة ليست دائما منظومة مرتبة، وتفاصيلها ليست دائما نتيجة ثابتة لمقدمات ثابتة، فالبقاء والتغير والابتكار هي القواعد الحاكمة للبشر وخاصة في وطن قلق مهموم بالظلم والقهر والطغيان مثل وطني، وهنا يصبح البقاء والتغير والابتكار أحوالا سلبية تسير بأصحابها إلى الهاوية وليس للقمة.

منذ أيام كان حادث محطة رمسيس المأساوي والذي احترقت فيه أجساد لبشر كانوا يدورون في ساقية الحياة اليومية سعيا وراء أقوات أيامهم التي لا ملامح لها ولا أمان، وعقب الحادث وبفعل الانفعال غير المرتب تداخلت المشاهد في رأسي وارتبكت وومضت ثم اختفت مخلفة وراءها الكثير من التساؤلات والتناقضات والذكريات القلقة المقلقة.

التجارب الذاتية لأي إنسان هي المحدد الحقيقي لمواقفه الموضوعية، وكذاب من يدعي غير ذلك، فالموضوعية هي انعكاس للذاتية.

عشت طفولة في وطن يعلن حكامه أنهم أصحاب مشروع صاعد، وما بين الأغاني الوطنية وحكايات البطولات وكل أنواع الفن الموجه لتشكيل مشاعر وأحاسيس قومية مصنعة ومعلبة، وفي خط مواز لهذا الصعود المتحمس عشت مشاهد بشر يحملون شخصيات ووجدانا مزدوجا، حماسا وإحباطا، شجاعة وجبنا، حبا وكراهية كلها في وقت واحد.

كان أبي رحمه الله تدمع عينه أمام كلمات جمال عبد الناصر الحماسية، وعندما يسمع السلام الوطني في المذياع ينتفض واقفا، وفي النصف الثاني من هذا المشهد كان حديثه الهامس مع المقربين جدا حول المعتقلات والمشانق المنصوبة للمعارضين وفساد كبار المسؤولين، وعرفت مصطلحات «اختفى وراء الشمس» و«الحيطان لها ودان»، وظلم الحاكم وجبروته، وكان كل هذا يحدث أمامي وأنا طفل فيرتبك وجداني ولا أعلم هل دموع أبي كان مصدرها انفعاله الوطني بكلمات الزعيم أم صادرة عن خوف من مصير مجهول قد يلحق به وبأسرته في أي وقت؟!

وانتقلت للمراهقة بفعل سنوات العمر، وكانت سنوات مبتسرة غير مكتملة النمو الطبيعي بفعل التناقضات المحيطة والحياة الاجتماعية المرتبكة ما بين النوازع الفطرية والموانع الدينية والقيم الأخلاقية وكلها أمور تحتمل الصدق والزيف بنفس القدر، وأميز ما في هذه الفترة أنها لم تكن خاضعة للبطريركية الأبوية أو للهيمنة الأسرية فلقد نشأت في أسرة تحترم خبرات الواقع والشارع والمجتمع أكثر من الخبرات الأسرية الموروثة، وما كنت أقترب من محبوبة بفعل الفطرة والطبيعة حتى أجد نفسي مجذوبا بعيدا عنها بفعل الموانع الدينية والقيم الأخلاقية والنزعات المثالية التي فرضتها علينا رموز من البشر كانوا هم ذاتهم أسباب الصدمات التاريخية التي أصابتني في مراحلي العمرية التالية، فما أبشع انهيار النموذج والرمز، وما أبشع أن تكون حياتك مجموعة من النتائج لشعارات زائفة.

ما علينا من الشخصنة ولنحاول الالتقاء في ذكريات تتعلق بالموضوعية

ذكريات في وطن مهموم

في مرحلة الصبا كنت محاطا بمناخ تغلب عليه هموم الوطن من هزيمة ونكسة وشعارات بناء الوطن والاشتراكية والمساواة والعمل والشرف، كلها تحمل معاني حماسية، ولكني كنت أحمل داخلي إحساسا بالانكسار لم يدركه وعيي ولم تفسره ثقافتي الوليدة، وكنت أشاهد أفلامنا الوطنية والتي كانت تقف في وصف هموم الوطن عند حد عام 1952 ومن أشهرها فيلم «في بيتنا رجل» وأتذكر أنني في إحدى المرات التي كنت أشاهده فيها إصابتني جرعة زائدة من الحماسة فنزلت الشارع أبحث عن أي اشتباك وطني، وبالطبع لم أجد محتلا إنجليزيا ولا مظاهرات فأدركت أنني في سكرة مؤقتة أخرجني منها الواقع فذهبت لتناول عصير القصب.

وفي عام 1970 خرجت في أول مظاهرة في حياتي وكانت عقب عودة الدراسة بعد إجازة مؤقتة عدة أيام سببها موت جمال عبد الناصر، وكانت المظاهرة تهتف هتافا واحدا«اليوم حرام فيه العلم» وكسرنا سلسلة الباب الحديد وخرجنا للشارع لنتفرق فمنا من ذهب لمقهى ومنا من ذهب لسينما «مرمر» ومنا من ذهب لبيته، ولا أعلم لماذا خرجنا ولماذا حرّمنا العلم في هذا اليوم، ولكن ما أدركه أنني كنت مدفوعا بحماس من دون موضوع أو قضية.

وفي عام 1972 أثناء مرحلة الدراسة الثانوية اعتصم طلاب جامعة القاهرة وجدت نفسي أقفز من فوق سور الجامعة وأحضر اعتصاما داخل القاعة الكبرى وتم حصارنا داخل الجامعة، لكنه كان حصارا عجيبا كنت أدخل من خلاله الجامعة وأخرج دون أن يعترضني أحد، وأدركت يومها أنها كانت مظاهرات بسبب الأسعار وأهم شعار فيها «سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه»، وداخل القاعة شاهدت لأول مرة قيادات يسارية تزاملت معها بعد سنوات قليلة عندما التحقت بالجامعة وكانوا يتحدثون حول اللاسلم واللاحرب حديثا كان إحساسي به أكبر من فهمي له، الملحوظة التي تبلورت لي بعد دخول الجامعة عام 1974 أنه لم يكن هناك ظهور لأي اتجاه سياسي إسلامي أو أي علامة لجماعة الإخوان المسلمين.

القدر الاشتراكي

ولنقفز قليلا على الأحداث.. لم ألتحق بالحياة السياسية فور دخولي الجامعة رغم كل المؤثرات المجتمعية التي كانت تدفع أبناء جيلي دفعا تجاه الاهتمام بالأوضاع السياسية فقد قضيت عامين طالبا جامعيا منطلقا ما بين الفرق الرياضية والندوات الثقافية الحرة والعلاقات الساذجة مع زميلات الدارسة تعويضا عن قضائي فترة الإعدادي والثانوي في مدارس بنين فقط.

إلا أن التحاقي بالعمل السياسي المنظم كان مرتبطا بظروف عجيبة أقرب للصدفة، فقد كان في نفس الفترة التي أعلن فيها أنور السادات عن تغيير نظام الدولة من نظام الحزب الواحد لنظام التعددية والمنابر السياسية، ووقتها قررت أن أنضم لأي نشاط من هذه النشاطات، خاصة وأنني كنت عضواً في الاتحاد الاشتراكي، وكانت المنابر الثلاثة كلها مخلقة من كيان الاتحاد الاشتراكي، أما الصدفة الطريفة أنني كنت أسير في أحد الشوارع في طريقي للمقر القديم للاتحاد لاشتراكي للبحث عن منبر انضم له فقابلني صديق يساري معي في نفس الجامعة وجلسنا على مقهى وهناك أخبرني أنه عضو في نادي سياسي بالجامعة ويدعوني للانضمام له، واسترحت للعرض الذي جنبني رحلة البحث عن منبر سياسي، ومن هذا النادي كانت علاقتي السياسية المتعمقة التي سارت بي عبر تفاصيل كثيرة للأيدلوجية الماركسية والشيوعية والقراءة، ولكن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أنه لو لم تكن هذه الصدفة لكنت سرت في هذا الطريق فما تعلمته من النظريات الاجتماعية والإنسانية للفكر الاشتراكي تتناسب تماما مع طبيعة شخصيتي التي لا تشعر بقوتها إلا من خلال قوة المجتمع البشري.

هذا الانبهار والحب للفكر الاشتراكي لم يمنعني من الاعتراف بصدمتي بعالم من المتناقضات في المجتمع المصري وخاصة السياسي متناقضات شملت كل الاتجاهات والأيديولوجيات وهو ما جعلني أتوازن مع نفسي بالفصل بين الفكر والآيديولوجية بصفة عامة وطبيعة التطبيق المصري بصفة خاصة، وهو ما يؤكد فكرة محلية النظرية وأنه لكل واقع طبائعه وخصوصياته.

متناقضات

وبالعودة إلى المتناقضات التي شكلت جزءا كبيرا ليس من شخصيتي فقط وإنما أعتقد أنها أثرت بشكل كبير على طبيعة المجتمع المصري الذي أصبحت معظم الأمور لديه أمورا نسبية تخضع لكل الاحتمالات، وكثيرا ما تفرض علي تجربتي المتألمة شريط من الذكريات للمشاهد المتناقضة فأتذكر القائد اليساري في التنظيم والذي كنت منبهرا بأحاديثه وكتابته حول المساواة والعقد الاجتماعي والحقوق الإنسانية ونضاله وصموده في السجون، وانهيار كل هذا في لحظة لم تزد عن دقيقة عندما تقابلنا مع بواب بيته ودار بينهما حديث استخدم فيه القائد الاشتراكي كل مفردات التعالي والتكبر وإيذاء المشاعر بكلمات المن والمعايرة والإهانة للرجل الذي كانت كل جريمته أنه لم يتقن تنظيف سيارته، وكان المشهد صدمة لي جعلتني أقف مع نفسي وقفة مرتبكة حائرة.

وفي البانوراما المؤلمة أيضا شيخ الجامع الذي كانت أصلي فيه وأنا صبي وشاب وكان حديثه معنا من خلال خطبة الجمعة والدروس التي يلقيها تتعلق معظم الأوقات بالحق والأمانة وإرضاء الخالق حتى ولو حساب خسارة الدنيا وما فيها، وينهار المشهد فجأة أثناء انتخابات لجان الاتحاد الاشتراكي وأنا أشاهده يسير وراء أحد رجالات الحكومة يتملقه ويدعو له بكلمات من التملق باهتة وركيكة ومهينة.

ومن المتناقضات التي تسير في شريط الذكريات تلك اللحظة التي فرضت علي روح الشك في روايات التاريخ وثوابته التي نشأنا عليها بفعل المناهج المفروضة، وهي اللحظة التي شهدت تفاصيلها حجرة فصل دراسي أثناء مرحلة الثانوي بينما الأستاذ محمد الفولي أستاذ التاريخ العبقري يشرح لنا أزمة الملك فاروق مع رئيس الوزراء النحاس باشا، الذي عاد لكرسي رئاسة الوزراء على سطح دبابات المحتل في مواجهة الملك، وعندما سألته أليس الملك هو الخائن والمتعاون مع الإنجليز والنحاس هو زعيم الوفد القائد لحركة التحرر، نظر لي مبتسما قائلا: «يا بني لا ثوابت لا في التاريخ ولا في السياسية»؟!

وأتذكر أيضا ما نشأت عليه من عقيدة كراهية الصهيونية وإسرائيل حتى أنني تعرضت لتجربة وأنا في المرحلة الإعدادية وكنت مع بعض من أبناء جيلي من هواة جمع بعض المجلات مثل سوبرمان وغيرها، وكان كل واحد منا يضع علامة على مجلاته ليميزها عن مجلات الآخرين، وهداني تفكيري لوضع علامة مميزة وغير مستخدمة فوضعت نجمة داود، وخلال يومين تغير موقف زملائي مني واستدعت المدرسة والدي لتخبره بالجرم الذي فعلته ليخصصوا لي حلقات مكثفة من جلسات الإرشاد والنصح والتوعية بمخاطر إسرائيل وأصولها الاستعمارية، رغم أن قيامي بهذه الفعلة كان مدفوعا برغبة استخدام علامة مميزة لحماية مجلاتي من السرقة، ولم تكن عن قلة وعي بمخاطر إسرائيل والصهيونية، ويسير بي المشهد حتى عام 1980 بعد أن تجاوزت العشرين من عمري بخمس سنوات وأتابع حادث الشاب سعد حلاوة الذي لم يستطع استيعاب فكرة استقبال رئيس مصري للسفير الإسرائيلي فاحتجز اثنين من موظفين المجلس المحلي رهينة لحين طرد السفير الإسرائيلي من مصر وانتهي المشهد بقنصه وقتله، وتألمت يومها بشده لإحساسي الشديد بما كان يشعر به الشاب فقد تربينا على نفس العقيدة التي غرزها فينا نظام الحكم ثم قام بعدها بسنوات بالتخلي عنها بل ومعاقبتنا على التمسك بها حيث تم اعتقالي بعدها بعام بتهمة معاداة دولة أجنبية صديقة وهي إسرائيل!

هذه المتناقضات التي عشتها مع أبناء جيلي وربما عاشها أجيال قبلي وتعيشها أجيال، لم تكن سلبية التأثير علينا فقط بل كانت لها جوانبها الإيجابية فقد حصنتنا من صدمات ما نشاهده اليوم من تناقضات اللاعبين على كل الحبال من النجوم الزائفة لكل الأزمان، تحصنت من الاندهاش أمام مشهد الإعلامية التي واجهت الرئيس المنتخب بكلمات لاذعة عندما احترق قطار في عهده قائلة له «مش أد الشيلة امشي»، بينما لم تتحدث بحرف أمام الرئيس العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب رغم كثرة الكوارث في عهده، ورغم آلاف الأرواح التي فقدتها مصر بفعل الإهمال والفساد والقمع، بل وقف زملاء لها يبررون للطاغية طغيانه ويلبسون «البوصة» أبهى الحلل من كلمات النفاق والرياء والكذب في محاولة لتجميلها لتصبح عروسة أو في قول آخر محاولة صناعة «الشربات» من «الفسيخ” .

من رحمة الله أنهم حاولوا أن يكسرونا بالبطش والفساد والمتناقضات والأكاذيب فكانت مشيئة الله أن تحولت كل هذه الموبقات إلى محصنات لنا زادتنا قوة ومقاومة.

عفواً هذا ليس مقالا بالمعنى التقليدي ولكنها خواطر مواطن قلق في وطن مرتبك.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان