تداعي الأمم الديمقراطية على الربيع العربي
شهدت السنوات الأخيرة حراكا شعبيا في العديد من الدول العربية، كان بدايًة لثورات عربية؛ تطالب بإصلاح ديمقراطي، وتنمية اجتماعية، واقتصادية، لشرائح عدة أهملت وهمشت لسنوات طوال عجاف، ولكن سرعان ما تداعت الأمم التي تتشدق بـ” الديمقراطية” متآمرة مع نظم الحكم العربي الإستبدادية، وحالت دون توجه البلاد العربية إلي التحول الديمقراطي، هذه المكيدة، لم تأت من الشعوب، وإنما من الصراعات الجيوسياسية الإقليمية، والدولية التي أثارتها مطالب الشعوب للحريات، والموقف السياسي العالمي الدولي، الذي انحاز ضد تلك الثورات، وغض الطرف عن عمليات سحقها من النظم الاستبدادية، ودعم الديكتاتوريات وفي غالبيتها “عسكرية”، تدعيما لمصالحهم.
إن نهج الأمم المتحدة لدعم الديمقراطية، يعتمد على ثلاثة من الأركان الرئيسية لعمل المنظمة الأممية وهي: السلام، والأمن والتنمية، وحقوق الإنسان، ولذا يقدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منفردا، كل عام ما يقرب من 1.5 مليار دولار، لدعم العمليات الديمقراطية على الصعيد العالمي، مما يجعل المنظمة واحدة من أكبر الجهات الموفرة للتعاون التقني لأغراض الديمقراطية، وشؤون الحكم في العالم بأسره.
تتطلب الأعمال السياسية للأمم المتحدة، تعزيز النتائج الديمقراطية؛ إلى جانب سعي وكالات التنمية إلى تدعيم المؤسسات الوطنية في كل دولة علي حدة، مثل البرلمانات، ولجان الانتخابات، ونظم القضاء، التي تشكل القاعدة الراسخة لأية ديمقراطية؛ فضلاً عن دعم جهود حقوق الإنسان لحرية التعبير، والانضمام للجمعيات المدنية والمشاركة الفعالة لكل الأيديولوجيات، وسيادة دولة القانون، فهذه هي العناصر المهمة الأساسية المكونة للديمقراطية؛ والتي لم تحدث في عالمنا العربي(!)
فهل الديمقراطية بمفهومها الغربي ممكنة التحقيق في العالم العربي؟
في الأشهر التالية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، تساءل الأمريكيون كثيرًا: لماذا يكرهوننا؟ وما زال السياسيون والصحفيون والأكاديميون الأوربيون حتي اليوم، يبحثون عن تفسير للأسباب وراء تطرف الكثيرمن شباب المسلمين، والرغبة في إعلان الحرب ضد الغرب، وخاصة أمريكا، بعيدُا عن المزايدات السياسية،.وجاءت الأيدلوجية الدينية العقدية؛ والتي يحلو للبعض تسميتها” الإسلام الجهادي” علي رأس الأسباب، التي ترسخ لدي الشباب، طريقًا شاقًا وصعب من الإلتزام بمناهج منغلقة لقادة تنظيمات؛ تتبع في نهاية المطاف، أجندات سياسية متطرفة، والأسباب متعددة، نذكرهنا الدوافع المحتملة لتحول الشباب للتيارالجهادي مايطلق عليه “الإرهاب” حول العالم؛ يأتي علي رأس تلك الأسباب، السياسة الخارجية للعالم الغربي تجاه العرب والمسلمين، والتآمرعلي تطلعه للحريات والعدالة الإجتماعية.
إن ثمة شيئا واحدا قد يتفق عليه معظم الناس حول العالم، هو أن الغرب غير متأكد من كيفية الرد على ما يسمى بتنظيمات “الجهاد الإسلامي” فكريًا؛ والتي تمثل هذه العقدة، إشكالية كبيرة للغرب، في عدم إمكانية وجود تفاهمات مشتركة، يستطيع من خلالها، التقاطع مع تلك الفئات الأخطرأيدلوجيًا، وتحقيق فوز لوجستي، يكون أرضية للتعامل السياسي، حتي وإن تحقق لهم الإنتصارعليهم ميدانيا.
ليس هناك أي أساس للزعم، بأن دعم الدول الديمقراطية الغربية أنظمة الاستبداد، وتأييدها في العالم العربي، جاء على أرضية الترهيب من طابع الثورات الإسلامي كما يدعون، وأن احتمال حلول نظم الإسلام السياسي ــ الذي بات واضحًا في تفاعلات الثورات، وشعاراتهاــ محل النظم “العلمانية” القائمة، منذ عقود، علي العكس من ذلك كله، لقد طفت التيارات الإسلامية على سطح الحياة السياسية، لعدم تدعيم الثورات لوجستيا؛ بسبب التخلي الفعلي عن دعمها، وتركها لمصيرها العشوائي، أمام طغاة لم يترددوا في تحويلها إلى مقتلات علي الهوية، وحروب إبادة جماعية، وعدم إتاحة الفرصة لأي من التيارات الأيديولوجية الأخري”عن عمد”، للتعبيرعن طموحاتها وأطروحاتها السياسية، بل إستدراجًا للحظة الحاسمة التي تنقض فيها علي جموع الثورة، بتياراتها المختلفة، إلا في بعض الحالات التي حدث فيها التدخل العسكري؛ وكان الغرض منه السطو على مصير تلك البلاد، والتسابق بمنطق العصابات للفوز بوضع اليد على ثروات البلاد المختلفة وأهمها “الثروات النفطية”، وتقاسمها فريسة، من دون أية مبالاة بمصير الشعوب، والتقتيل والتهجير، أوانتقالهم الديمقراطي الذين بذلوا فيها أثمانًا باهظة، ولأغراض ومصالح إستعمارية ذاتية؛ كما فعلت فرنسا بالتدخل العسكري في ليبيا، وكما قامت الولايات المتحدة في عهد الرئيس”بوش الابن” بحربها التدميرية ضد العراق.
على العكس من ذلك، روج الإعلام العالمية=، قبل أسابيع قليلة من إصدار الرئيس الأمريكي”جورج بوش” أمرا بغزو العراق عام 2003، مقولة: “إنه بمجرد الإطاحة بصدام حسين، فسيصبح العراق “منارة للديمقراطية في الشرق الأوسط”، وها قد أصبح العراق مرتعًا للتناحر الطائفي، والحرب الأهلية، وساحة حرب مفتوحة للتنظيمات الإرهابية، وغارقًا في أزماته الإقتصادية.
الغرب يرتعد من وصول الإسلاميين “الراديكاليين” للسلطة، وخاصة مع إشكالية وجود إسرائيل، التي قد تكون “أكثرالديمقراطيات تطورا” في منطقة الشرق الأوسط، لكن ماذا سيحدث لو وجد العداء الذي يكنه كثير من العرب تجاه إسرائيل مساحة للتعبير الديمقراطي؟
ومفهوم تماما لدي الغرب، إذا تصرفت حكومات الأنظمة العربية، بناء على ما تريده الشعوب، فإن إسرائيل ستواجه مشكلة وجودية، وظهرت هذه القضية بوضوح، عندما فازت حماس في الانتخابات في الأراضي الفلسطينية عام 2006، ــ كما جاء في تقريرموسع علي موقع قناة البي بي سي ــ تسارع الغرب هنا أيضًا، والمسؤولون الإسرائيليون لرفض هذه النتائج، ورفض لقاء ممثلي الحركة المنتخبين حديثا على أساس أنهم يريدون تدمير إسرائيل؛ وفي غضون بضعة أشهر، كان العديد من ممثلي حماس المنتخبين في السجون الإسرائيلية، وتوالت الأحداث عاصفة في غزة منافية لكل قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالحصار الشامل، والتجويع (!).
على مدار عقود، كان الجهاديون المتطرفون، والإسلاميون المعتدلون – مثل العديد من الليبراليين الغربيين – يقولون إن الخطاب الغربي الذي لا ينتهي حول الديمقراطية هو خطاب أجوف، ويتساءلون: ألا تحصل البلدان العربية “علي رأسهم المملكة السعودية” التي تنتهك حقوق الإنسان بشكل منهجي، وتلقي بكل القوانين الدولية عرض الحائط، على الدعم الغربي؟!
وكيف كان الرئيس المصري السابق “حسني مبارك” يمول من المعونة الأمريكية، ومازال الرئيس الحالي “السيسي” ــ والذي جاء بعد انقلاب عسكري ــ ينتهج نفس النهج، بل أعنف وأدمي من كل الذين سبقوه؟
وعلى الرغم من تقارير المنظمات الدولية ومنها “هيومن رايتس وتش” عن سجلات السجون المصرية، في التعامل بالتنكيل والبطش، والتعذيب الممنهج، من السلطات التنفيذية، لمعارضي النظام، والصحفيين، والحقوقين، والجمعيات المدنية، وعدم السماح، بالحصول على محاكمات عادلة وشفافة، تحظي هذه الانظمة الفاشستية بتدعيم سياسي براجماتي، لايري الإ مصالح الغرب، في توفير أمن إسرائيل، وإحكام القبضة الأمنية في ملف الهجرة.
ربما المؤشر الأكثر وضوحا، على ازدواجية المعاييرالغربية؛ ماحدث أيضًا في الجزائرعام 1992؛ عندما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ آنذاك، في طريقها للفوز في الانتخابات البرلمانية، كان هناك ارتياح في العواصم الغربية؛ عندما تدخل الجيش “بضوء أخضر فرنسي”، وانتهج العنف، وفرض حظرا على الجبهة المنتخبة ديمقراطيًا، واعتقل العديد من أعضائها، ووأد حلم بلد بالكامل، بل جل الشعوب الآملة في إستنشاق نسيم الحريّة، والتمتع بأجواء الديمقراطية، التي صاحبت نتائج التصويت، في صناديق الاقتراع، والعرس الانتخابي، الذي مازال حلمًا، يراود جموع شعوب العالم العربي.
لم تنشأ الجماعات المتطرفة الجهادية، بمعزل عن هذه الاستراتيجية الغربية المتناقضة، علي العكس نشأت وترعرت، أجيال عديدة، في مستنقع الحقد والقهر واليأس، والعمل المتواصل من القوي العالمية، علي إجهاض حلم الشعوب العربية، في الحداثة والتنمية، ما نجم عنه الشعور باليأس، ومحاولات الشباب المستميتة، من رفض هذا القهر بروح التمرد الثورية، والتفلت من الظلم الجائر، ومع انسداد كل أفق التواصل، وغياب الخيارات السياسية، أضف إلي ذلك الفقر وضيق العيش، باستنفاد ثروات البلاد العربية، كرس ذلك لدي شباب تلك التنظيمات؛ مبدأ العنف الموجه للداخل والخارج علي حد سواء، كخيار أمثل لرفض الإقصاء والاستئثار بالحكم.
إن تآمر الغرب مع الأنظمة الحاكمة أصبح ميدان استثمار واستغلال مشترك، للنظم الاستبدادية ولقوى الوصاية الدولية معا، التي تستخدمها لتبرير سياسات الحرب، وتحييد الشعوب وإخضاعها وتشتيتها والتحكم بمصيرها؛ واستخدام سيناريو الإنقلابات العسكرية تحت شعارات “الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية”، أي أنها الديمقراطية الآتية على “ظهور الدبابات”، ولكن الواقع المرير المتردي في بلدان “الربيع العربي”لا يواكب ذلك. فالبيانات الصادرة عن الانقلابيين تُصاغ دائمًا في قوالب ثابتة؛ حيث ينص البيان الأول على أن القائمين بالانقلاب لا يريدون البقاء في السلطة، ويجب أن تعود إلى الشعب في أقرب فرصة، وينتهي الحديث عند هذا الفاصل، لتنتصر ديمقراطية الغرب المؤدلجة “الحصرية” للعرب؛ وتصبح الأحزاب السياسية صورية، والمعارضة الحقيقية في غياهب السجون والمعتقلات والمقابر، ويكون أمام المواطنين، خياران لا ثالث لهما، إما الخضوع والتسليم بالانقلاب، وإما الرحيل والمنفي!
ولا تزال الكثير من الدول الغربية وأمريكا ـ على وجه الخصوص ـ متمسكة بنظرية “هنري كيسنجر” والتي تقول: إن المصالح لا تتحقق بمعزل عن القوة، وإن الدور الأمريكي الجديد ليس نشر المبادئ الديموقراطية وقيم حقوق الإنسان فقط ، بل الأهم هو نشر العولمة الرأسماليَة وفرضها بقوة السلاح في مختلف أرجاء العالم ، إذا اقتضى الأمر ذلك!.
بناءً على ما سبق، يمكن القول بأن الحركات الثورية في منطقة الشرق الأوسط أمامها نوعان من المعارضين: الأنظمة العربية المستبدة، ومؤيدوها في الغرب. وهذا أيضًا يجعل أي حركة ثورية في العالم العربي؛ لها بعد دولي معاد بشكل طبيعي، والأهم، أن هذا العداء؛ يجعلها حركة تسعى أيضًا لكي يكون لها تأثير دولي مضاد الإتجاه؛ وهو طريق محفوف بالعراقيل والتحديات المحبطة، والنجاحات القليلة المؤثرة.
الشعوب العربية اليوم في حاجة ماسة إلى أبنائها الغيورين؛ أولئك الذين يتسمون بقدر كبير من الفطنة والذكاء، الذين يقفون حدا وسطا بين تآمرالغرب، والديكتاتوريات الغاشمة علي بلدانهم، بكل ما أوتوا من حكمة وعلم، من أجل تفويت الفرصة على أعداء الأمة، والمتربصين بها، الذين أجمعوا اليوم على النيل من إنسانيتنا، وحقوقنا المشروعة، على هذا الأساس، مطلوب من الشعوب رفض كل دعوة للفرقة والتشرذم، والصبر على بعض الاختلافات المنطقية لتعدد منابعها الفكرية، توافقًا لتحقيق الهدف الأسمي، لنيل شرف الحرية، إن الحقوق لاتضيع مادام وراءها مطالب، وإن شعوبًا حيةً تنفست نسيم الثورة العليل، لن تدخل سجون الاستسلام واليأس مرة أخري، مهما طال الأمد، واشتدت النكبات.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه