أبي أحمد .. الإصلاحي الذي لن يحبه الاستبداد العربي

وتقديري أن الزعامة تنتقل اليوم من جنوب أفريقيا إلى إثيوبيا، والزعامة هبة وميزة لا يكون جديراً بها غير أشخاص نادرين
أبي أحمد علي رئيس وزراء إثيوبيا (44 عاماً)، ليس مفاجأة أفريقيا فقط، إنما هو الإصلاحي الأبرز فيها اليوم، ربما ليس هناك إصلاحي مثله مع استمرار وجود كثير من الديكتاتوريات العتيدة والناشئة في القارة ذات السجل الأسوأ عالمياً في الطغيان، والانقلابات العسكرية الروتينية، والتصفيات الدموية، والحروب الأهلية التدميرية، والفقر المدقع، والفساد الضارب في الأعماق، والارتهان للمستعمر القديم حتى الإذلال والابتزاز.
نيلسون مانديلا كان رمز أفريقيا التاريخي في النضال والتسامح والوحدة الوطنية وبعد رحيله لم يظهر في جنوب أفريقياً زعيم بقامته ولا أدنى منها ليواصل مكانته في زعامة القارة، بل غرق خلفاؤه في وحل الفساد والمصالح الشخصية، ولهذا يبقى مانديلا متفرداً.
وتقديري أن الزعامة تنتقل اليوم من جنوب أفريقيا إلى إثيوبيا، والزعامة هبة وميزة لا يكون جديرا بها غير أشخاص نادرين، فهي ليست شهادة يمكن أن يَتّحصل عليها أي دارس، ولا هي مجرد ممارسة نشطة في عالم السياسة، إنما هي قائد ينكر ذاته، ويخلص لشعبه، ويقدم التضحيات، ويحقق لأمته ما تصبو إليه..
ولهذا كان مانديلا في جنوب أفريقيا لمواجهة الفصل العنصري البغيض، وغاندي ونهرو في كفاح لنيل استقلال الهند، وونستون تشرشل في قيادته لبريطانيا وأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية لمواجهة الطغيان النازي والفاشي، ومارتن لوثر كينغ في الدفع بمسيرة الحقوق المدنية ومساواة السود بالبيض في أمريكا، وقبله أبراهام لينكولن المحارب لتوحيد أمريكا ومنع انقسامها، وغيرهم الكثير من الشخصيات في تاريخ العالم، وهو اليوم أبي أحمد علي الذي يبيض وجه إثيوبيا من القمع والقهر والمظالم العرقية، ويبني بلداً ديمقراطياً حراً متسامحاً، ويدفع التنمية إلى الأمام، ويزيل إرثا ثقيلاً من القطيعة والدماء مع الجيران، ويتحرك خارج بلاده في وساطات لحل الأزمات، ويحيي الأمل والتفاؤل في نفوس الإثيوبيين جميعاً، والنقطة الأخيرة مهمة في ظني، فهي ليست مجرد معنى رومانسي ناعم وشفاف، إنما طاقة حماس وأمان حقيقية لدى كل مواطن في هذا البلد ينتظر واقعاً جديداً أفضل، والأمل يحيي النفوس، واليأس يقتلها، والتفاؤل نور وضياء، والإحباط ظلام وعتمة.
وسندرك قيمة هذا المعنى أكثر إذا قمنا بإسقاطه على البلدان العربية حيث لن نجد حاكماً يبث هذه المعاني بالصدق والإخلاص في نفوس شعبه، ومن يذكر بضع كلمات منها فهي من قبيل النفاق ومحاولة التقرب من المواطنين، والمؤكد أن الناس صارت تفهم هذه الألاعيب جيداً.
الشعب الاثيوبي يدرك أن قائده يقود حراكاً شاملاً ينطلق به للأمام، وأنه صادق، فما يقوله يفعله، وهو ليس في حاجة لنفاق شعبه، فقد قدم الكثير من الخطوات التي تثبت أنه وجه مختلف لهذا البلد، وأنه زعيم شاب مصلح يصعب العثور على مثيله حالياً في الجغرافيا العربية.
بدا أبي أحمد نجماً فريداً في السودان مؤخراً، ففي اليوم الذي كان يتم الاحتفال فيه بتوقيع الوثيقة الدستورية والسياسية كانتصار أولي للثورة على طريق لا تزال طويلة، في هذا اليوم وعند الترحيب بالضيوف من قادة الدول المشاركين في الاحتفال نال آبي أحمد تصفيقاً حاراً ومطولاً لم ينله أحد غيره من عشرات الضيوف العرب والأفارقة.
فلماذا كل هذا الاحتفاء بالقائد الإثيوبي، وليس بأي مسؤول عربي ورد ذكره من المنصة؟
لأن أحمد علي عمل بإخلاص لحل الأزمة بين الثورة والعسكر، وكان في وساطته يقف على مسافة متساوية من الفريقين، وتوفرت لديه نوايا مخلصة لمصلحة السودان والتقريب بين المعسكرين وليس بيع أحدهما للآخر، وقد تحرك مبكراً، وبتوازن دقيق ومحسوب، ولم يكن له غرض، إنما إنقاذ السودان، ولا يكون ذلك إلا بإيقاف رغبة المجلس العسكري في الانفراد بالحكم والانقلاب المضاد على الثورة.
السودان الناجح هو سودان الثورة، وهذا ما عمل آبي أحمد من أجله، وهذه المهمة لم يكن يستطيع القيام بها إلا ديمقراطي حقيقي عقلاً وقلباً وممارسة وسلوكاً، والوحيد المؤهل لهذه المهمة كان آبي أحمد، وليس أحد من العرب، فهم أبعد ما يكونون عن معاني الديمقراطية واحترام إرادة الشعوب.
التصفيق الممتد للشاب الذي غير وجه إثيوبيا في زمن قياسي، وجعل الناس تنام آمنة مطمئنة، وبيض السجون، وأعاد المعارضين إلى بلادهم، وأحيا السياسة، ومكن للمرأة، وجعل الاختلاف مع النظام حقاً وليس تهمةً، وأشاع أجواء من السعادة في ربوع بلاده، هذا التصفيق رسالة لعموم العرب والأفارقة والعالم بأن الزعامة الجديدة تدشن نفسها بفكرها الإصلاحي وبخطواتها نحو حكم رشيد، وتتصدر القارة لتمارس دور الوساطة في مختلف أزماتها وصراعاتها.
غضب وعدم محبة
من أسف أن مشهد أبي أحمد في السودان قد يثير غضباً مكتوماً وقد لا يكون محبوباً لدى الاستبداد العربي، فهم في طريق مضاد لطريقه الإصلاحي الديمقراطي الذي اقتحم عقر دار العرب في السودان وقدم حلولاً إيجابية، بينما هم عوامل تأزيم وتدخلاتهم للتعقيد والتوتير والانحياز للمجلس العسكري لدعم كفته وتسهيل كسر الثورة.
قد يعمل العرب ونظراؤهم من الأفارقة على محاولة تحجيم الزعيم الإثيوبي، فالديمقراطيون الأحرار غير مرغوب فيهم وسط المستبدين، ومن أسف أن القارة لاتزال تقبع في وحل الفاشيات والصراعات على الحكم المطلق وليس على تمكين الإرادة الشعبية لتقرير مصيرها واختيار حكامها.
يكفي هذا القائد أنه صار محبوباً من الشعوب في دول العرب وأفريقيا حيث دشن صورة إيجابية جذابة له ولبلاده، ولا يذكره الإعلام العالمي إلا بالخير، ولا يوجه انتقادات له، بينما القادة العرب
أو معظمهم لا شعبية مؤكدة لهم داخل أو خارج أوطانهم، والوصف اللصيق بهم في الإعلام العالمي أنهم مستبدون، ومنهم من يُوصف بأنه مجرم حرب يستحق المحاكمة الدولية، وأشنع الصفات تُوجه إليهم.
ظهر أبي أحمد واتخذ خطوات إصلاحية واسعة لأن الائتلاف الحاكم في إثيوبياً كان صادقاً مع نفسه في فهم طبيعة الأزمة المعقدة في البلاد، وارتأى أنه لا حل إلا بوجه جديد مؤمن بالتغيير لقيادة التغيير وإلا سقطت البلاد في مستنقع لا خروج منه.
هذه النظرة الواقعية الشفافة غائبة في البلدان العربية، وبديلها المكابرة والمعاندة والسير في طريق مظلم مسدود والتكلفة دوماً باهظة، والأوضاع على الأرض تؤكد ذلك.
يستطيع أبي أحمد أن يذهب إلى أي مكان في العالم من دون أن يخشى المظاهرات ضده، أو المطاردة بسجلات سوداء في حقوق الإنسان والانتهاكات التي تُرتكب في بلدان العرب وأفريقيا وتطارد حكامها في الخارج فيتخفون منها، ويتنازلون في غرف الاجتماعات المغلقة، ويقدمون العطايا والمصالح للأجنبي من دماء وعرق ومقدرات شعوبهم للبقاء في كراسيهم.
لكن التجربة الثابتة تقول إن الكلمة الحاسمة في البقاء أو السقوط هي للشعوب، وليست للأجنبي، إذا ما هب الشعب واقفاً، وهتف مطالباً بالحرية، ولنا في السودان والجزائر حالياً، وما سبقهما في موجة الربيع العربي الأولى الدرس العظيم حتى لو تعثر طريق التغيير.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه