للعبث يا طلائع

 

عنوان فيلم قصير جداً للمبدع السوري الشاب يامن عنتابلي.

لا أعرف إن كان يامن حين اختياره للعنوان قد فكّر بالنهاية العبثية للإنسان السوري بعد انقضاء تسع سنوات على الثورة السورية، لكنّه بالتّأكيد اختصر بدقائق تاريخ القمع السوري الذي بدأ باستلام حافظ الأسد للسلطة في سورية والتي أسس لها حزب البعث العربي الاشتراكي! الذي حمل شعار “وحدة حرية اشتراكية” رددناها ونحن تلاميذ على مقاعد الدراسة وفي ساحات المدارس أمام العلم السوري الذي رفرف في سماء سوريا البعث التي حولها حافظ إلى سوريا الأسد مستلهما التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وكوريا والصين الشعبية التي أخذ منها بناء الإنسان متدرجاً في المنظمات بدءاً من الطفولة في منظمة “طلائع البعث” ومن ثمّ منظمة “الشبيبة” واتحاد الطلبة في الجامعات التي فتحت الآفاق أمام البعثيين المظليين من الطلاب لدخول كليات الطب والهندسة والصيدلة من دون مجموع ولا جهد دراسي، يكفي أن يخضع الطالب لدورة مظلي، يهبط بعدها في كلية الطب آمناً مطمئناً والمسدس معلق في حزام بنطاله يضعه على الطاولة أمامه أثناء الامتحان كتميمة تبعد المراقبين مئات الأمتار بل تحشرهم من الرعب في الزوايا وعند الأبواب كي يستطيع بكامل الحرية فتح الكتاب أمامه ونقل إجابة السؤال بالحرف وعلامة الترقيم، وكي يتخرج بامتياز ثمّ يخرّج مرضاه إلى المقبرة بإذن الله.

مقولات الفيلم:

حرص الفيلم على رصد ظاهرة القمع التي تبدأ من المدارس الابتدائية باستخدام العصا والضرب المبرح مقترنة بظاهرة الخوف لدى المدرسين الحريصين على توثيق إرهابهم بالكاميرا كي يثبتوا للمسؤولين أنهم يقومون بواجبهم على أكمل وجه.

الضرب لا يوهن نفسية الأمة “التهمة التي وجّهت إلى المتظاهرين في بداية الثورة، لكنّه يؤدي إلى طريقين سيختار الطالب أحدهما أو سيفرض عليه السير في أحدهما.

إما أن يكون في موقع القاتل أو الضحية.. لم يُخرِّج نظام البعث سوى هذين النموذجين للإنسان القاتل والضحية، بالإضافة إلى أنّه لم يخطر بباله مطلقاً أن تنتفض الضحية يوماً على جلادها وتعلن الثورة. كما لم يخطر بباله أبداً أنّه السبب في اندلاع تلك الثورة.

يطرح الفيلم من خلال حكاية بسيطة من الواضح أنّها _زمنياً_ حدثت في بداية الثورة أو بعدها بمدّة بسيطة إذ استخدم الموبايل في تصوير حادثة الضرب التي مارسها المعلم والمعلمة وربّما الشخص الثالث هو المدير أو أحد أعضاء الهيئة الإدارية في المدرسة.

أثناء حصة الدرس يقرع الباب ويدخل أحد الإداريين بصحبة تلميذ جديد، يسأله المعلم لماذا تأخر عن الالتحاق بالمدرسة فيرد إنه عائد من الغربة من “السويد تحديداً” يسأله المعلم ولماذا عدت من تلك البلاد فيجيب بأنّ أباه أخبره أنّهم في السويد يستطيعون امتلاك كلّ شيء، كل شيء متوفر، الماء والكهرباء والمنتزهات والعلم، لكن لا يوجد فيها كرامة، كرامة الإنسان في بلده، وهو عائد إلى حيث سيمتلك الكرامة!

يقرع الجرس.. يخرج المدرس، التلاميذ ينتهزون الفرصة للعب بالكرة، يرميها إبراهيم فترتطم بصورة بشار الأسد المعلقة على الحائط، تقع الصورة على الأرض، ويتحطم زجاجها..

يسود الصمت، وتقرع البلاط خطوات ثقيلة، المعلم، المعلمة، الإداري، ومعهم الشخص الذي يحمل الموبايل ويقوم بتصوير عملية الانتقام من التلاميذ بضربهم بوحشية بالعصا.. (في نهاية الفيلم مشاهد حقيقية مشابهة)

ثمّ تنتبه المعلمة إلى التّلميذ الجديد الواقف قرب الباب والذي لم يغادر مكانه بعد فتشحطه وتضربه، يحتج قائلاً “أنا جديد” تقول بقرف “باين عليك، هيك علمتكن أوربا” في إشارة إلى أنّه لم يتحمل الضرب.. الطالب السوري يثبت جدارة منذ نعومة أظفاره في تحمل الضرب والإهانات والذل حتى ينهي المرحلة الابتدائية مرحلة “طلائع البعث” التي غنى لها المطرب اللبناني “محمد جمال” في تلك الفترة أغنية “للبعث يا طلائع” والتي أصبحت شعار المرحلة تغنى في كلّ وقت “في المدارس، والأنشطة، والمعسكرات، والمناسبات”

لقد أبدع محمد جمال بتلك الأغنية كما أبدع مع الثنائي محمد سلمان ونجاح سلام في أغنية “سوريا يا حبيبتي” والتي أصبحت شعاراً للمرحلة هي الأخرى مرحلة الانتصارات الخلّبية، ففي تصويرها تنطلق الصواريخ على إسرائيل وكأنها أحجار من سجيل أرسلها الله من الجحيم ليصلي بها العدو ويمحوه من الوجود.

استخدم الطغاة عموماً الفن لتخدير الجماهير باستغلال العلاقة العاطفية الحميمة بين المطرب وجمهوره، بالتأكيد لن ينسى شباب سوريا تلك الأغنية التي تربوا عليها منذ صغرهم وإن نسوا اسم مغنيها أو حتى لم يعرفوه أبداً، لن ينسوا “للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع أقدامنا حقول طريقنا مصانع”

فقد كانت أقدامهم تجلد فيما يسمى “الفلقة” التي أسس لها المشايخ في كتاتيبهم، وكانت وسيلة التعليم الأولى!

في الفيلم عندما انتهى “المعلمون” من ضرب التلاميذ جاء دور إبراهيم، إبراهيم الذي رمى الكرة وأصاب صورة الأسد، المعلم طلب من إحدى التلميذات أن ترفع رجلي إبراهيم ليجلده.. المخرج مرّر لقطات معبرة وصغيرة عن علاقة الطفلة بإبراهيم المهذب والحنون، كانت تبكي وكان يصرخ ويتألم ويستجير..

ولا مجير

فقد أنهى المعلم الفيلم عندما وقع إبراهيم بعبارة “شيلوه” العبارة التي يستخدمها الجلادون حين يقع المعتقل كالخرقة على الأرض نتيجة التعذيب.

وقد أشار المعلم إلى هؤلاء بقوله “المرة الجاية مو نحنا اللي رح نضربك بتعرف مين…”

ألصق الزجاج المحطم بلاصق أسود شكّل فوق شفتي الرئيس شارباً هتلرياً.. لكنّ هتلر لم يكن أكثر من تلميذ في مدرسة القمع والإرهاب التي ابتدعها حافظ وتفوق عليه ابنه في فن التعذيب وابتكار أساليب القتل.

بسيطاً كان الفلم ومباشراً لكنه تناول جزئية مؤسسة في فكر الاستبداد، فقد صنعت مدارسنا رجالاً للتشبيح بأنواعه، ورجالاً للخنوع الطوعي أو الإجباري، ولأنّ كلّ شيء يفرز نقيضه، ولأنّ ثمّة رجالاً لا يمكن قهرهم، فقد انتفض أصحاب الشعور السامق بالحريّة والكرامة بثورة ما يزال العالم يرفض الاعتراف بها.

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه


إعلان