الثورة
بعد ست سنوات من القمع غير المسبوق في مصر كسر المصريون حاجز الخوف وخرجوا للشارع دون خطوات تصاعدية أو مقدمات رافعين شعارا واحدا.
لا تتأثروا بالعنوان قبل قراءة المقال، هو حديث وربما جدل حول الأحداث الأخيرة في مصر وما يتعلق بها من مستجدات متتالية:
بعد ست سنوات من القمع غير المسبوق في مصر كسر المصريون حاجز الخوف وخرجوا للشارع دون خطوات تصاعدية أو مقدمات رافعين شعارا واحدا كمطلب نهائي أو كما يقول المصريون «من الآخر» والمطلب هو رحيل «السيسي»، وهي المرة الأولى الذي تبدأ به فاعلية بالمطلب النهائي، وهو ما يعني أن ما حدث أقرب للانفجار الشعبي منه إلى الاحتجاج.
ربما يجادلني أحد لوصفي قمع السنوات الست السابقة بأنه قمع غير مسبوق مشيرا إلى أن القمع كان أحد السمات الواضحة في حكم مصر منذ عشرات السنين، لكني وصفت قمع السنوات الست السابقة بأنه غير مسبوق لأنه كان قمعا مرتبطا بسياسات إفقار الشعب واستغلاله وأهانته، وكان قمعا مرتبطا بسياسات غيرت من خريطة البلد وفرطت في الأرض بشكل مهين أهدر كرامة المصريين.
خرج المقاول محمد علي بفيديو كشف فيه عن علاقته بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة والتي تقريبا تحتكر كل المشروعات المحورية في مصر، وكشف عن سفه وفساد بالمليارات، وهو ما آثار غضبا شديدا بين المصريين، وقبل استكمال كلماتي حول تداعيات هذا الغضب أتوقف للرد على تساؤل منطقي: لماذا لم يغضب المصريون بهذه القوة من قبل رغم ما عايشوه من أحداث من المفترض أن تكون أكثر تأثيرا من معلومات الفساد
مثل: بيع أراضي مصرية لمستثمرين أجانب والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وارتفاع الأسعار، وانهيار البنية الأساسية بدرجة أدت لوقوع ضحايا بالمئات؟
الإجابة ببساطة تتعلق بمدى الألم الذي أصاب المصريين بعد سماعهم حديث المليارات التي كانت تنفق بلا حساب على مشروعات تتعلق برفاهية الرئيس ورجاله، ومقارنتهم هذا الحديث بخطاب رئيسهم المتكرر حول فقرهم وقلة الموارد ورفضه صرف ميزانية لتطوير مرفق السكة حديد الذي يموت بسبب تهالكه المئات، بحجة أننا شعب يحيط به العوز، وهنا أصبحت الصورة أمام الشعب المصري وكأنه ضبط لصا متلبسا بسرقة قوته وماله وعرقه ودمه، وكان سببا في موت وضياع الآلاف من أبنائه، ومن هنا كان الاهتمام والانفعال والثورة.
وللأسباب التي ذكرتها غضب الشعب المصري غضبا شديدا كان سببا في كسر حاجز الخوف والصمت والصبر الذي أحاط به طوال ست سنوات، وخرج الشباب المسروقة آماله غاضبا ليس من أجل المطالبة بالتحقيق في وقائع الفساد، وإنما بمطلب إسقاط الرئيس، مصدرا حكمه النهائي عليه بأنه المسؤول عن كل هذا الفساد ..
وقد أحاط بثورة الغضب مواقف واتجاهات وتداعيات كثيرة، فتصور البعض أن نجاح الشباب في النزول للميادين، دليل على أن هناك جناحا في السلطة يدعم فكرة الانقلاب على السيسي، وفرقة أخرى رأت في محمد علي الذي فجر وكشف معلومات الفساد الزعيم المنتظر والمخلص لهم وقائد الثورة القادمة، أما الظاهرة الأهم فهي الارتباك والخوف اللذان أحاطا بالرئيس ورجاله إلى حد اقترب من الرعب ولجؤه للحماية الأمريكية.
وضع رسول «كسرى» قاعدة ثابتة عن ارتباط العدل براحة الضمير عندما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نائما تحت شجرة في أمان ودون خوف وبلا حراسة فقال مقولته المشهورة: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر»، ولأن عكس القاعدة قاعدة فما شاهدناه من رعب «السيسي» ورجاله يجعلنا نقول له: «حكمت فظلمت فارتعبت»، وهذه هي الحقيقة؛ فالرعب دائما يصاحب الظالم والقاتل والمستبد وتظل أشباح وأرواح ضحاياه تطارده، ومع أول أزمة تظهر مظاهر الرعب ولا يستطيع أن يخفيها مثلما حدث مع بداية أول شرارة احتجاج في الشارع أعادت للجنرال ذكريات المؤامرة على الشعب المصري، ومشاهد القتل والدمار والتعذيب التي تسبب فيها ليعيش بقية حياته مرتعبا من لحظة الانتقام القادمة.
وغالبا ما يلجأ المرتجف أو المرتعب إلى استخدام كل الأسلحة الباطشة والعنيفة وغير المشروعة في حماية نفسه، وتهون عليه كل القيم التي كان يتشدق بها فخرا مثل الشرف والأمانة والعدل وحب الوطن وحرصه عليه، ويصبح كل همه البحث عن طريق للنجاة حتى لو بالاستعانة بقوى خارجية على حساب الوطن واستقلاله وموارده، وقد حدث.
الملاحظة الثانية وهي ملاحظة مؤسفة تتعلق بالتطور السريع من الشعب الغاضب في رؤية دور الفنان المقاول محمد علي إذ بسرعة شديدة تحول الرجل من مواطن قام بدور مهم في كشف فساد وحقائق، كان لها دور كبير في شحنة الغضب لدى الناس، إلى زعيم سياسي وقائد ملهم للثورة، وبدأ الكثير من المصريين ينتظرون فيديوهاته باعتبارها توجيهات، واعتبروه الولد الذي تنظره البلد ليخلصها!
الحقيقة أن هذه الرؤية أو هذا الموقف من محمد على يعكس ثقافة شعب في علاقته بالحكم، ولهذا نلاحظ دائما أن وجود زعيم الثورة أو قائدها لدى المصريين أهم بكثير من وجود مبادئ أو رؤية أو برنامج للثورة، وبلغة أخرى الناس يرون في قائد الثورة وكيلا ومفوضا عنهم بلا قيود ولا حدود وليس ممثلا لهم ومعبرا عن إرادتهم ورؤيتهم، وفرق بين الموقفين، الأول: يعني أن يصبح الفرد هو المتحكم في إرادة المجموع ومسيطرا عليها، والثاني يكون القائد تعبيرا متطورا دائما عن إرادة الشعب التي تقوده وتقيمه وتقومه، ولهذا فغالبا هنا لا يحتاج الأمر لزعيم يمتلك كارزيما وقدرة خطابية وقوة تأثير، بقدر ما يحتاج لقدرة على التفاعل مع المجموع والتعبير عنه.
لو راجعنا تاريخ الثورة الفرنسية وأدبياتها وما كتب عنها سنكتشف أن هناك أسماء ارتبطت بها كمفكرين ملهمين لها مثل جان جاك روسو وفولتير، ولكن الملاحظ أن الكتابات عن الثورة كانت تتعلق بمبادئها ومطالبها وتطور أحدثها، وكلها منسوبة للشعب الثائر، ولا يوجد أي تركيز لقائد أو زعيم تدين له الثورة بحدوثها، كان هناك العديد في مراكز القيادة لإدارة الثورة وتنظيم حركتها، وهؤلاء ممثلون للشعب ومعبرين عنه لا العكس.
المشكلة الدائمة في مصر الاعتقاد بأن أي تغير أو ثورة أو حركة إصلاحية لا بد لها من قائد يقودها وليس معبرا عنها، ولهذا يحدث دائما أن طاقة الشعب الثائر تضيع في التنافس على القيادة والمبايعات أكثر من التركيز على تحديد رؤى برنامجية وخطوات وأهداف ومطالب للثورة، لينتهي الأمر في النهاية إلى فراغ يقفز خلاله الحكم الفاسد مرة أخرى ليستعيد زمام الأمور كما حدث في مصر بعد عام 2011.
ولهذا دعوني أشطب من الفلكلور الشعبي مقولة «بلد عايزة ولد»، واستبدلها بعبارة «بلد عايزة وعي»، لن نستقل ونحصل على حريتنا تحت راية زعيم بل تحت رعاية شراكة شعبية واعية، وإرادة جماعية.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه