الثورة في مصر.. بين عودة الوعي وعودة الروح
كلام الحكيم يحيلنا إلى بداية المقامرة بمقدرات البلد وأمواله مع الفارق في الاستخدام، نستطيع القول إنّ عبد الناصر أخطأ بل كان حكمه سلسلة أخطاء لكنّها ليست جرائم.
حين كتب توفيق الحكيم كتابه “عودة الوعي الذي صدر عام “1972” زلزل عرش عبد الناصر وقوّض كلّ المفاهيم التي قامت عليها الناصرية ونسف من خلال انتقاداته لحكم ناصر العسكري القداسة التي اتصف بها شخص الرئيس في عيون محبيه من المحيط إلى الخليج.
لكن الحكيم لم ينشر كتابه في عهد عبد الناصر، ولم يمتلك الجرأة للتعبير عن أفكاره ومشاعره التي كتبها فعليا ما بين عامي 1952 و1972 أي أنّه انتقد عبد الناصر منذ توليه الرئاسة وحتّى وفاته.
ماذا لو نشر الحكيم كتابه ذاك في عهد عبد الناصر؟ ماذا لو غامر الحكيم بأمانه ومعيشته الهادئة في ظلّ حكم العسكر وترك بلده ولجأ إلى دولة ديمقراطية كفرنسا مثلا التي درس فيها وكتب أولى رواياته فيها.. ما الذي كان يتغيّر في آليات الحكم في مصر؟
يقول توفيق الحكيم في كتابه عودة الوعي: “قائدنا الخالد بهزائمه العسكرية المتلاحقة التي غامر فيها بأموال شعب فقير ليحتل أرضه في النهاية عدو صغير، بقي ليتنصل من هزيمته ويجعل مشيره هو الذي يدفع الثمن بانتحاره، ويقدّم قواده إلى المحاكمات، وتلقى عليهم التبعات، وحتى من أراد تلميحاً عن فساد أو نكسة فيجب إبعاد شخص الزعيم عن كل مسؤولية.. وهكذا استمر في كرسي الحكم على مصر والزعامة الناصرية على العرب جميعاً، تلك الزعامة التي خربت مصر ونكبت العرب”.
كلام الحكيم يحيلنا إلى بداية المقامرة بمقدرات البلد وأمواله مع الفارق في الاستخدام، نستطيع القول إنّ عبد الناصر أخطأ بل كان حكمه سلسلة أخطاء لكنّها ليست جرائم ارتكبت بوعي كامل وسارت وفق مخططات للنهب والسلب كما حدث في عهدي مبارك والسيسي.
من رأي الحكيم في كتابه أنّ ثورة 1919 أيقظت مصر من دون اعتماد على حكام مصر وحكومتها وساستها وأحزابها “فمصر بعد ثورة 1919 في حضارتها وفكرها وفنها واقتصادها هي من صُنْعِ مصر، وليست من صنع حكامها، أمّا بعد ثورة 1952 فإنّ مصر هي من صنع الدولة أكثر مما هي من صنع نفسها، فإرادة الدولة وقراراتها المطلقة التي لا معارضة لها ولا مناقشة هي التي توجه كلّ شيء في مصر حتى مجرد الفكر وهذا عكس ما حدث بعد ثورة 1919”.
ويفرق توفيق الحكيم في كتابه بين الهجوم والنقد، ويبيّن أنّ الحكّام يخافون النقد لأنّ فيه إيقاظ للعقول وهم لا يريدون للعقول أن تستيقظ وتفكر ومن ثمّ تختار، يريدونها نائمة كي يستطيعوا السيطرة عليها وسياستها في الاتجاه الذي يرغبون به. لكن فاتهم أنّ الحاكم الناجح هو من لا يخشى العقول المستيقظة لأنّها ستساعده على رؤية واضحة في الحكم!
وبمناقشة هذه النقطة بالذات ومن خلال تجربة حكم مرسي نستطيع اكتشاف أنّ فكرة الحكيم لا يمكن تطبيقها في شروط بيئية غير سليمة، الشّعب الواعي الذي سيختار ويحكم ويسوس الدولة هو شعب قد تخلّص من التبعية ومشاعر القطيع، شعب يمتلك الحريّة كاملة يعيش في وسط نظيف فكرياً، فإن لم تتوفر هذه الشروط سيسقط الحاكم بانقلاب عسكري كما حدث مع مرسي، وسيعود العسكر للحكم لكن بطريقة أكثر فسادا وجشعاً مما حدث في العهد الأوّل للحكم والثاني والثالث.
الملفت للنظر أنّ الحكيم قال إنّه لو كان عبد الناصر حياً لوافق على نشر الكتاب وإن طلب منه كتابة مقدمة له لفعل لأنّه “شخصية عظيمة فعلا مفتوح القلب والعقل”. ويكون الحكيم بذلك قد عاد لنقطة البداية وهي وقوع تبعات الأخطاء في عهد عبد الناصر على قادة البلاد من العسكر والشرطة والمخابرات وبراءة عبد الناصر “بشكل تقريبي” من كلِّ الجرائم التي حصلت في عصره. وهذه غالباً النظرية التي يحاول الحكّام ترسيخها في أذهان الشعب أنّ الرئيس “مخلّص” ومن حوله فاسدون.
تناول توفيق الحكيم في روايته عودة الروح ثورة 1919 والحكيم يعتبرها الثورة الحقيقية الوحيدة التي قامت على أكتاف الشّعب وسواعده بعيداً عن الحكّام والساسة والأحزاب. الثورة التي انتهى أبطالها “في رواية الحكيم” إلى المعتقلات والمستشفيات..
الثورة التي تشبه ما حدث في سوريا عام 2011 والتي انتهى روادها في المعتقلات وماتوا تحت التعذيب بسبب تطور الإجرام والتوحش البشري.. ومع كلّ ذلك التوحش والدمار الذي حصل في سوريا منذ بداية الثورة السورية حتّى الآن خرج الشباب السوريون بمظاهرات ينادون فيها “يا مصر نحنا معاكِ للموت” كما كانوا ينادون في بداية ثورتهم “يا درعا نحنا معاكِ للموت… يا حمص… يا حماة ..
يا مصر نحنا معاكِ للموت. لعلّ ما يجري يكون عودة للروح وانتصاراً للشعب على الطغاة.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه