الصراع التركي اليوناني بين الماضي والحاضر والمستقبل
الذي يريد أن يعرف حقيقة الصراع القائم في شرق البحر الأبيض المتوسط عليه أن يدرك عمقه التاريخي ثم طبيعته الأيدولوجية ثم طبيعة شبكة المصالح بين التقارب والتضارب ثم موازين القوى بين أطرافه في ساحة المعركة التي اتخذت من شرق المتوسط ميداناً لها
أما أسباب الخلافات التركية اليونانية الظاهرة الآن فهي:
1- الحدود البحرية. 2- جزيرة قبرص.
3- التنقيب عن النفط والغاز
ولكن لنعد إلى التاريخ لنستذكر في نقاط محطات الصراع الحقيقية كما أراها:
1- بدايته عند هزيمة الدولة البيزنطية وفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح.
2-استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832م.
3- هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1918م واقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية وفق اتفاقيتي (سفر، لوزان) عام 1923م، واقتطعت مجموعة من الجزر في بحر ايجه لا تبعد 2 كم عن الحدود التركية لصالح اليونان.
4- دخول تركيا شمال قبرص لحماية القبارصة الأتراك من بطش القبارصة الروم عام 1974م في نفس العام الذي وقع فيه انقلاب عسكري ضد مكاريوس.
5-قامت ثلاث حروب بين تركيا واليونان (1974 ،1987، 1996) م.
6-دعمت تركيا القبارصة الأتراك لتأسيس دولة لهم في شمال قبرص حيث أخذوا ثلث الجزيرة ويوجد 35 ألف جندي تركي يتناوبون لحماية القبارصة الأتراك من أي عدوان رومي يوناني محتمل. وتعد دولة قبرص الشمالية تابعة لتركيا اقتصادياً وعسكرياً منذ تقسيم الجزيرة عام 1974م.
أما عن حلف الأطلسي الذي يضم في عضويته تركيا واليونان فلم يكن محايداً أبداً فى هذا الصراع بل كان ولايزال داعماً لليونان وقام بوقف توريد السلاح لتركيا بل قام بالتجسس على الاتصالات اللاسلكية للجيش التركي لصالح اليونان.
وأما عن المصالح المتمثلة في الغاز والطاقة فإن شرق المتوسط يحتوي على 122 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بالإضافة إلى 107 مليار برميل من النفط الخام وفقاً لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية
وأما عن الحدود البحرية وترسيمها فماذا فعلت اليونان؟
دفعت اليونان قبرص اليونانية لتوقيع اتفاقيات مع مصر عام 2003 ومع الكيان الصهيوني عام 2005 ، ومع لبنان عام 2007 وتجاهلت حقوق القبارصة الأتراك. الأمر الذي عارضته تركيا وقبرص التركية بشدة واعتبرته أنقرة انتهاكاً صارخاً لجرفها القاري.
على ماذا تعتمد كل من تركيا واليونان فى مسألة الحدود البحرية؟
تعتمد اليونان على مبدأ “المسافة المتساوية” وهو المبدأ المعتمد لدى بلدان اليابسة.
أما تركيا فتدفع بأن هذا المبدأ ليس قاعدة في تحديد حدود الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة للبلدان وتعتمد على القانون الدولي وقانون البحار التابع للأمم المتحدة الذي ينص على مبدأ “التقاسم المتساوي” وباعتبار المساحات، وعليه فإن الجزر تنال مساحات أقل من بلدان اليابسة بحسب مبدأ “الإنصاف”، فهل يعقل أن تطلب اليونان (جرف قاري) لجزيرة “كاستيلو ريزو” باللغة اليونانية أو “ميس” بالتركية. (40 ألف كيلومتر) والجزيرة مساحتها 10 كيلومتر مربع!!!
ملحوظة: هذه الجزيرة تبعد عن اليونان 580 كيلومتر وعن تركيا 2 كيلومتر، ومع ذلك تتبع اليونان كأثر من آثار التقسيم الجائر في فترات الاستضعاف
عملت أمريكا على ازدياد الصراع في حوض المتوسط بدعم تأسيس منتدى غاز البحر المتوسط في يوليو تموز 2019
ويضم مصر والأردن (ولا تطل على البحر المتوسط) واسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا، علماً يأن بعض هذه الدول ليست مصدر غاز انما مستهلك له كالأردن في حين تغيبت دول معينة عن هذا المنتدى أهمها لبنان وتركيا وسوريا
وتقوم أمريكا بالإمساك بكفة توازن القوى بين تركيا وفرنسا بدفعهما بصورة مدروسة نحو موازنة الدور الروسي المتنامي هناك.
وروسيا تدعم حفتر في مواجهة تركيا التي تدعم حكومة الوفاق، وتقوم بدعم اليونان من خلال تفعيل منظومة إس300 في جريزة كريت، وتدخل في الوقت ذاته في حوار وتفاوض مع تركيا
وتهدف روسيا أيضاً إلى تفاهمات تحقق لها استئناف عمليات التنقيب عن الغاز قبالة السواحل السورية واللبنانية وصولاً إلى استخدام موانئ البحر المتوسط كالموانئ الليبية في طبرق ودرنة ومدينة “سرت” الليبية التي تعتبرها خط أحمر باعتبارها البوابة الغربية لمنطقة “الهلال النفطي” بهدف تسهيل وصول الطاقة إلى الاتحاد اﻷوربي مقابل حفاظ تركيا على نفوذها في الغرب الليبي وحوض المتوسط ومشاركة روسيا لاستراتيجية نقل الغاز لدول الاتحاد الأوروبي تحت إدارتها.
وأما تركيا فقد وقعت مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية في 27/11/2019 الأولى بخصوص التعاون الأمني والعسكري، والثانية بشأن تحديد مناطق النفوذ البحرية وذلك لتوقف التحركات القبرصية عند جزيرة “كريت” التي سيمر فيها خط نقل الغاز والنفط إلى أوروبا عبر اليونان فكان رد فعل اليونان هو طرد السفير الليبي وقامت بتوقيع اتفاق مع اسرائيل وقبرص اليونانية لمد خط الغاز “إيست مد” في 2 يناير 2020 نحو اسرائيل.
مواقف الدول الأخرى الفاعلة في الصراع التركي اليوناني
قام النظام المصري بتوقيع اتفاقية مع اليونان لترسيم الحدود البحرية رغم خسارة مصر ما يقارب من 24 ألف كم من حدودها البحرية.
وبادرت بإقامة منتدى غاز شرق المتوسط مع اليونان وقبرص وفرنسا نكاية في تركيا مع أنها استفادت من المواقف التركية التي تقف حائلاً دون إقامة خط غاز شرق المتوسط.
وأما فرنسا فلا يخفى رئيسها ماكرون عداءه لتركيا ورئيسها والتحالف مع أي من دول الاقليم للإضرار بتركيا فاعتمدت استراتيجية “الاتحاد من أجل المتوسط” التي ترمي إلى الحفاظ على النفوذ الأوروبي في شرق المتوسط وزيادته، وتدفع وتحرض بشكل سافر على التصعيد ضد تركيا
وأما الكيان الصهيوني فيهدف إلى تصدير الغاز للاتحاد الأوروبي بطريقة آمنة وبتكلفة أقل وهذا يتحقق بإنشاء خط أنابيب الغاز شرق المتوسط يمر عبر الأراضي التركية فتكلفته أقل من إنشائه في عرض المتوسط لذلك هي لا تقوم بالتصعيد ضد تركيا لمحاولة الاستفادة من مذكرات التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية
وفى النهاية قد بدا واضحاً امتزاج التاريخ بالجغرافيا بالمصالح بالأيدولوجيا وخاصة أن تركيا تجاوزت مرحلة القبول بفرض واقع مختل بعد سقوط الدولة العثمانية إلى رفض هذا الواقع ثم محاولة دؤوبة لفرض واقع جديد قد يأخذ وقتاً وقد تكون تكلفته عالية لكنه واقع مدعوم بقوة حقيقية متنامية وسياسة مدروسة متوازنة
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه