معركة الحجاب في تركيا من واقع تجربتي الشخصية!

في الأول من فبراير/ شباط من كل عام يحتفل العالم الآن بيوم الحجاب، وهو الاحتفال الذي بدأ منذ العام 2013، وتجرى فعالياته في 140 دولة حول العالم، وتقوم فيه النساء غير المحجبات بارتداء الحجاب بهدف خوض تلك التجربة عمليا، والتعرف على شعور المحجبات، ومشاركتهن مشاعرهن وهن يتعاملن مع المجتمع الرافض لوجودهن بسببه، بهدف رفع درجة الوعي وتعزيز مبدأ التسامح الديني بين مختلف الجنسيات والانتماءات العقائدية.
وبهذه المناسبة تستحضرني تجربة شخصية مررت بها في أوائل الألفية، حيث كنت أعمل مراسلا معتمدا في تركيا لإحدى الفضائيات، الأمر الذي منحني القدرة على متابعة الفعاليات الرسمية والمجتمعية، ولم أجد فعليا ما يعوق عملي إطلاقا، فقد كنت أحضر المؤتمرات الصحفية والمقابلات الرسمية سواء تلك التي تقيمها رئاسة الوزراء أو وزارة الخارجية.
ولما كنت المحجبة الوحيدة آنذاك وسط نخبة من الإعلاميين الذين يقومون بتغطية تلك الفعاليات، كان مظهري يلفت الأنظار بشدة، فالقوانين السائدة وتطبق بصرامة خلال تلك الفترة كانت تمنع المحجبات من ارتياد هذه الأماكن لا للعمل ولا لقضاء مصلحة، ولا حتى للإدلاء بشهادتهن أمام المحاكم، ولا لتلقي العلاج في المستشفيات العامة.
ارتداء الحجاب داخل تركيا في تلك المرحلة، كان يعني تلقائيا سحب كافة الحقوق المدنية من المحجبة كمواطنة تركية، بما في ذلك حق استكمال دراستهن الجامعية، ومن تريد ذلك عليها إما التخلي عن حجابها، أو السفر إلى خارج البلاد.
وهو الأمر الذي حرم الكثيرات من نيل شهادتهن الجامعية، وكم شاهدت من محجبة تقوم بخلع حجابها على الباب الخارجي لمقر كليتها قبل أن تخطو بقدميها خطوة واحدة داخل الحرم الجامعي، وهو ما دفع قيادات حزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت لإرسال بناتهن إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لاستكمال دراستهن الجامعية هناك.
ولم يكتف القائمون على الأمر بذلك، بل إنهم منعوا دخولهن أية منشأة عسكرية بما في ذلك الكليات والمشافي، ولو لزيارة قريب، أو ابن يقيم في إحدى التجمعات السكانية الخاصة بالعسكريين، أو حتى حضور حفل تخرجه.
وسط تلك الأجواء كان من الطبيعي أن يكون تواجدي بالحجاب أمرا يثير الكثير من الدهشة وعلامات الاستفهام على كافة الوجوه التي تراني.
لم أعر الأمر اهتماما كوني أجنبية في المقام الأول، وأمارس عملي المهني بموافقة وقبول من السلطات التركية التابعة لرئاسة الوزراء، التي كانت مسؤولة آنذاك عن اعتماد المراسلين الأجانب داخل تركيا، والتي منحتني هوية الاعتماد الرسمية وعليها صورتي بالحجاب.
واعتبرت أن الأمور تسير بشكل طبيعي، ولا يوجد ما يستدعي القلق، خصوصا مع تولي الرئيس رجب طيب أردوغان رئاسة الوزراء، والذي فوجئ في أول الأمر بوجودي، مفاجأة يبدو أنها أسعدته، حيث كان حريصا على تحيتي في كل مرة أتواجد فيها في مؤتمر صحفي يعقد برئاسة الوزراء.
كما حضرت حفل شاي أقامته وزارة الخارجية بدعوة من وزيرها عبد الله غول في ذلك الوقت، لمجموعة محدودة من الإعلاميين، احتفالا بقبول ملف مباحثات عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي، وتقديرا للحيادية التي تناولنا بها الحدث كما قال وقتها، ورحب بي الرجل أيما ترحيب.
كلها أمور أعطتني انطباعا مؤكدا أنني لست معنية بالقوانين التي تعيق حياة المحجبات التركيات، وأن كفاءة عملي هي الفيصل بيني وبين القائمين على الأمر في هذا البلد، لكنني للأسف الشديد كنت واهمة، وكانت الحقيقية تخالف واقع الحال تماما.
بدا ذلك حينما استقبلت أنقرة رئيس الجمهورية المصري حسني مبارك في زيارة رسمية مع الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار، وللمصادفة كانت الزيارة في شهر فبراير/ شباط، وتم تكليفي من إدارة المحطة التلفزيونية التي أعمل مراسلة لها بإعداد تقرير مطول بشأنها، توجهت وفريق العمل إلى القصر الجمهوري، واستقبلنا أمن قصر شنكايا، (قصر الرئاسة التركي) وقاموا بسحب أجهزة هواتفنا ووثائق إثبات شخصياتنا، وأدخلونا في غرفة جانبية ملحقة بالقاعة التي سيعقد فيها المؤتمر الصحفي، جلست أنتظر ومعي العشرات من الإعلاميين من القنوات التركية والفضائيات العالمية.
وفجأة أقترب مني شخص طلب مني وهو يبتسم أن أذهب معه لأمر مهم، أجبته أن المؤتمر على وشك أن يبدأ، لكنه أكد لي أنني لن أتأخر، تساءل بعض الزملاء وفريق العمل عما يحدث، طمأنتهم وخرجت معه من الغرفة، حيث توجه بي إلى مكتب ضخم وفخم يجلس عليه أحد الأشخاص، واستأذن في الذهاب لثوانٍ، وغادرني قبل أن أنبس ببنت شفة.
جلست أنتظر وكلي قلق على بدء المؤتمر الصحفي الذي بات قاب قوسين أو أدنى، والرجل اختفى ولم يظهر، سألت الجالس في مواجهتي على المكتب عن الأمر، قال مبتسما بلطف إنه لا يعرف، وحاول طمأنتي، وأثناء انشغالي بالتفكير فيما يحدث وضعت يدي على رأسي بحركة لا إرادية لترتطم بحجابي.
وقتها فقط أدركت حقيقة الموقف، انتصبت واقفة وابتسمت أنا هذه المرة، وطلبت من الرجل بهدوء أشيائي الخاصة التي بحوزته، فسارع على الفور بمنحي إياها مرحبا، خرجت لأجد السائق الذي كان بانتظارنا ينظر إليٍ متعجبا وهو يسألني هل انتهى المؤتمر الصحفي؟ أجابته نافية: إنهم لا يريدونني بسبب الحجاب!
وجلست في السيارة أنتظر خروج فريق العمل عقب انتهاء المؤتمر، لأفاجأ بعشرات الكاميرات والصحفيين يحيطون بي لمعرفة سبب إخراجي من القاعة، ويتساءلون عما إذا كان الحجاب هو السبب، لأقوم بعقد أول مؤتمر صحفي لي في حياتي، وبدلا من أن أقوم أنا بتوجيه الأسئلة وتلقى الإجابات، أصبحت توجهٌ لي الأسئلة وأنا أجيب عنها، ليتصدر الموضوع نشرات الأخبار التركية مساء، وعناوين صحف اليوم التالي.
ليتم استدعائي بعدها في جمعية الصحفيين الأجانب، ويُطلب مني تغيير صورتي في وثيقة الاعتماد بصورة أخرى من دون حجاب، لأجد نفسي وقد أصبحت مضطرة إلى الانصياع للقانون الذي يمنع عمل المحجبات التركيات في وسائل الاعلام، أو التواجد في أية مؤسسة عامة.
ويستغل الإعلام الموالي للإسلاميين الحادثة ويفتح ملف المحجبات على مصراعيه، ويطرح حقهن في حياة طبيعية من دون قيد ولا شرط مثلهن في ذلك مثل غيرهن من غير المحجبات.
ويزداد الوضع سخونة بعدها بستة أشهر، وتحديدا في شهر يونيو/ حزيران، حينما عقد حلف الناتو مؤتمرا له في إسطنبول، التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، وتقدمت بطلب لتغطية المؤتمر، وحصلت على موافقة أمن المؤتمر، والذي كان جٌل القائمين عليه من وكالة الاستخبارات الامريكية، لتعود حادثة منعي من تغطية المؤتمر الصحفي في شنكايا للظهور بقوة أكبر، حيث عقدت الصحافة الإسلامية وقتها مقارنة بين مسؤولي حلف الناتو، وهم من المسيحيين، الذين وافقوا على حضور إعلامية مسلمة ومحجبة لتغطية فعاليات خاصة بالحلف، وبين مسؤولي أمن رئاسة الجمهورية التركية المسلمين، الذين رفضوا حضوري مؤتمرا صحفيا تم فيه إلقاء بيانات مكتوبة سلفا.
تمر الأيام وينجح حزب العدالة والتنمية في تغيير حزمة القوانين التي أعاقت لعقود حياة ملايين المحجبات، ويفتح أمامهم الطريق للعيش بإنسانية، ويتولى عبد الله غول رئاسة الجمهورية، وأتلقى دعوة شخصية كريمة يدعوني فيها على شرفه وشرف السيدة حرمه لحضور حفل عشاء خاص في قصر شنكايا، الأمر الذي بدا لي وكأنه رد اعتبار لجميع المحجبات، من مكان كان يلفظهن في وقت من الأوقات، والآن أصبح يدعوهن لتناول العشاء فيه.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه