وباء كورونا وصلاة الجمعة في البيت

وإن منعت صلاة الجماعة والجمعة في المسجد، فيمكن للإنسان المسلم أن يصلي الجمعة في بيته مع أبنائه، نعم نعلم أن الجمعة لها هدف وهو اجتماع المسلمين لسماع خطبة الخطيب
بعد إعلان وباء كورونا وباء عالميا، وتأثر العالم كله بتداعياته، وآثاره الخطيرة، ما بين مرض وموت، صدرت فتاوى معتبرة من علماء كبار وهيئات علمائية كبرى، ترخص للناس ترك الجمعة والجماعات في المساجد، مخافة أن تنتقل إليهم عدوى كورونا، وقد بادر بإصدار قرار بإغلاق المساجد، وعدم القيام بشعائر صلاة الجماعة والجمعة.
وقد عزَّ على الكثيرين هذا الإجراء، وأن تعطل الشعائر في المساجد، ولكن لأجل الضرر على الناس أن تتحمل القرار، وهناك مساحة لتعويض الصلاة في المساجد، فمن حيث عدم خلو المساجد من العبادة، فيمكن للمؤذن أن يؤذن ويصلي في ميكرفون المسجد بحيث يظل في أسماع الناس الأذان والصلاة.
وإن منعت صلاة الجماعة والجمعة من المسجد، فيمكن للإنسان المسلم أن يصلي الجمعة في بيته مع أبنائه، نعم نعلم أن الجمعة لها هدف وهو اجتماع المسلمين لسماع خطبة الخطيب، ولكن هذا الهدف الآن لا يمكن أن يتحقق كاملا، لظرف طارئ وليس دائما، ويمكن للأب في بيته مع أبنائه وأهل بيته، أن يخطب فيهم خطبة قصيرة، ويصلي بهم الجمعة جماعة، وبذلك يكون تعويضا عن الحرمان من صلاة الجمعة في المسجد، ويؤدي بعض الغرض، وإن كان ترك الجمعة في هذا الوقت بهذه الظروف هو رخصة يحق للمسلم أن يستفيد بها ويصلي ظهرا، ولكن لمن يرتبط بالحنين للخطبة والمسجد وصلاة الجماعة، يستطيع أن يعوض ذلك بأن يصلي في بيته.
قد يرفض ذلك البعض، بأن الفقهاء اشترطوا شروطا للمكان الذي يجوز فيه صلاة الجمعة، كأن يكون جامعا، وأن يكون العدد معينا، حسب شروط وضعها الفقهاء، ولكن الفقهاء ليسوا مجمعين على هذه الشروط، وكثير منها ليس عليها دليل شرعي يسلم من النقاش من الكتاب والسنة، فأقوى الأقوال المستندة إلى الأدلة، أن صلاة الجمعة كصلاة الجماعة، والشروط فيهما واحدة، فإذا اجتمع اثنان فصليا فهي صلاة جماعة، وكذلك يمكن أن تكون صلاة جمعة، وقد دار نقاش في تراثنا الفقهي حول الجمعة والعدد الذي تصح به.
فكان الآراء حول العدد فقد ذكر ابن حزم الظاهري أقوالهم كالتالي:
(وأما العدد الذي يصليه الإمام فيه جمعة ركعتين فقد اختلف فيه، فروينا عن عمر بن عبد العزيز: الجمعة تكون بخمسين رجلا فصاعدا.
وقال الشافعي: لا جمعة إلا بأربعين رجلا: أحرارا، مقيمين، عقلاء، بالغين – فصاعدا. وروينا عن بعض الناس: ثلاثين رجلا. وعن غيره: عشرين رجلا.وعن عكرمة: سبعة رجال لا أقل. وعن أبي حنيفة، والليث بن سعد، وزفر، ومحمد بن الحسن: إذا كان ثلاثة رجال والإمام رابعهم صلوا الجمعة بخطبة ركعتين، ولا تكون بأقل؟
وعن الحسن البصري: إذا كان رجلان والإمام ثالثهما صلوا الجمعة بخطبة ركعتين وهو أحد قولي سفيان الثوري وقول أبي يوسف، وأبي ثور وعن إبراهيم النخعي: إذا كان واحد مع الإمام صليا الجمعة بخطبة ركعتين. وهو قول الحسن بن حي، وأبي سليمان، وجميع أصحابنا، وبه نقول.
وقد دلل ابن حزم على رأيه فقال: (وأما حجتنا فهي ما قد ذكرناه قبل من حديث مالك بن الحويرث أن رسول الله: قال له: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما» فجعل – عليه السلام – للاثنين حكم الجماعة في الصلاة).[1]
وزاد من النقاش والأدلة على صحة هذا الرأي القائل بعدم اشتراط عدد معين في الجمعة: الإمام ابن المنذر، في كتابه: (الأوسط)، فقال: (أوجب الله على الخلق اتباع كتابه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله جل ذكره: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) النساء: 59، وقال الله جل ذكره: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) الجمعة: 9، فاتباع ظاهر كتاب الله عز وجل يجب، ولا يجوز أن يستثنى من ظاهر الكتاب جماعة دون عدد جماعة بغير حجة، ولو كان الله في عدد دون عدد مراد لبين ذلك في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما عم ولم يخص كانت الجمعة على كل جماعة في دار إقامة على ظاهر الكتاب، وليس لأحد مع عموم الكتاب أن يخرج قوما من جملته بغير حجة يفزع إليها، وهذا يلزم من مذهبه القول بعموم الكتاب، وأن لا يحال ظاهر منه إلى باطن، ولا عام إلى خاص إلا بكتاب أو سنة أو اتفاق.
ثم بين ابن المنذر أن السنة لم تبين العدد، فقال: (إذ ليس في شيء من الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا كان عددهم كذا أن يصلوا، وإن نقصوا من ذلك العدد لم يصلوا، إنما كتب أن يصلي بمن معه، ولو ورد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وعددهم أقل من أربعين فترك أن يصلي بهم، لكان تاركا لما أمره به).
وأما عن شرط أن تكون صلاة الجمعة في (مدينة) أو بلغة الفقهاء: (المصر)، فرد عن هذا الشرط فقال: (ودفع بعض أهل العلم قول من زعم أن الجمعة إنما تصلى في مصر أو مدينة يكون فيها قاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، بأن بعض أصحابه قد صلى بالمدينة الجمعة وليس فيها منبر ولا قاض ولا كانت الحدود تقام بها في ذلك الوقت). [2]
فهذا نقاش علمي فقهي مهم حول صلاة الجمعة وما تصح به، وأن قضية العدد ليست موضع إجماع، ولكنها مسألة مختلف فيها، والأدلة مع من رجح أنها تصح باثنين، ونحن في حالة استثناء بوجه عام، فيمكن لمن أراد الأخذ برخصة عدم صلاة الجمعة في المسجد مخافة العدوى، أن يصليها ظهرا في بيته، أو يصلي مع أبنائه في البيت بحكم وجوده في البيت في هذا الوقت أن يصليها جمعة، بخطبة، والأمر متروك للمصلحة التي يراها الإنسان في الأمر، وبخاصة أن الرأيين لهما ما يسنده شرعا، وله وجاهته الشرعية والفقهية.
[1] انظر: المحلى لابن حزم (5/47-50) بتصرف شديد.
[2] انظر: الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر (4/31-33) بتصرف.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
