دروس “طالبان” لقوى التغيير العربية

الإتفاق التاريخيالذي وقعته حركة طالبان الأفغانية مع الحكومة الأمريكية على أرض الدوحة وبرعاية قطرية، وبحضوروزير الخارجية الأمريكي بومبيو وممثلين عن الأمم المتحدة والإتحاد الأوربي ومنظمة التعاون الإسلامي والدول المجاورة لأفغانستان يوم السبت الماضي قدم بارقة أمل جديدة لشعوب أخرى تعاني من الاحتلال أو الاستبداد السياسي والعسكري بإمكانية انتهاء الكابوس وإن طال الأمد.
على مدى 19 عاما خاضت “طالبان” حربا متشعبة ضد القوات الأمريكية التي تحتل أفغانستان بعد إنهاء حكم الإمارة الإسلامية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي اتهمت الولايات المتحدة تنظيم القاعدة بارتكابها وهو التنظيم الذي كان يتخذ من أفغانستان مقرا له، وخلال هذه السنوات لم تستسلم حركة طالبان وترفع الراية البيضاء بسبب عدم تكافؤ المعركة، ولا الأسلحة المستخدمة فيها، وتمسكت الحركة بخيار المقاومة المسلحة في الجبال والأودية المختلفة مستغلة حاضنتها المجتمعية( البشتون) وخبرتها ومعرفتها بطبيعة المكان والسكان على خلاف الأمريكان، ورفضت التفاوض مع الحكومة الأفغانية التي تعتبرها مجرد دمية أو”خيال مآتة” حتى اضطرت الإدارة الأمريكية وفي ظل أكثر رؤساها تطرفا التفاوض مع الحركة التي كانت تصنف “إرهابية”.
بعد أقل من عشر سنوات على الحرب الأمريكية المفتوحة ضد حركة طالبان أدركت الإدارة الأمريكية أن النصر الحاسم ليس ممكنا خاصة بعد فقدها حوالي 2500 جندي، إضافة إلى إنفاق حوالي تريليون دولار، وإضطرت للدخول في مفاوضات سرية مع طالبان منذ ثلاث سنوات تقريبا، حرصت أن تظل بعيدا عن الأضواء بقدر المستطاع، ولكن حركة طالبان كانت حريصة على تسريب بعض محطاتها بين الحين والآخر، وطيلة تلك المفاوضات لم تتوقف الأعمال القتالية بين الطرفين، بل كانت بعض الجولات القتالية تحتد أثناء بعض جلسات التفاوض، ما يعني قدرة الحركة على استخدام المسارين السياسي والعسكري في آن، وهذا هو القانون المعمول به دوليا دون كتابة، فالحرب هي الوجه الآخر للسياسة ، والسياسة هي الوجه الآخر للحرب.
حركة طالبان بدروها أيقنت أن حربها المفتوحة مع القوات الأمريكية لن تحقق نصرا، بل ستظل في إطار الدفاع والاستنزاف، كما أصبحت أكثر اقتناعا بعدم قدرتها استعادة حكمها منفردة لأفغانستان ناهيك عن قدرتها على إدارة شئون الدولة منفردة مجددا بعد أن خبرت ذلك خلال الفترة من (سبتمبر 1996-أكتوبر2001)، ولذا فقد قبلت الدخول في تفاوض سياسي يسمح لها بمشاركة جزئية في السلطة في نهاية المطاف، وقد عبر رئيس وفدها المفاوض عن هذه القناعة عبر مقال له في نيويورك تايمز قبل أن تنتهي مفاوضات الدوحة.
أنتهت إذن المفاوضات إلى النتيجة التي أعلنت في المؤتمر الصحفي العالمي يوم السبت الماضي، والتي تضمنت انسحاب القوات الأمريكية خلال 18 شهرا، على أن تبدأ الدفعة الأولى للانسحاب خلال 135 يوما، مع تعهد حركة طالبان بقطع صلاتها تماما مع تنظيمي القاعدة وداعش، وعدم السماح لهما بالعمل في أفغانسان أو انطلاقا منها، والدخول في مفاوضات مع الحكومة الأفغانية (التي كانت الحركة ترفض الاعتراف بها) ينتهي إلى بناء نظام سياسي جديد يسمح لكل القوى بالمشاركة (أي ستصبح طالبان جزءا من هذا النظام وليست مهيمنة عليه).
في التسويات السياسية لا يحقق اي طرف كل ما يريد إلا إذا كان قد انتصر بشكل حاسم في معركة عسكرية، وبالتالي فقد حققت طالبان بعض المكاسب التي تعيد لها الثقة والاعتبار بعد أن كانت مصنفة (إرهابية) وتعيدها إلى الحكم ولو جزئيا، وترفع العقوبات الدولية ضدها، وتوقف نزف دماء أبنائها، وإطلاق سراح أسراها (5 آلاف أفغاني مقابل ألف أمريكي)، وفي الوقت نفسه حقق ترامب مكاسب منها تحقيقه لوعده السابق بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان قبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل ما يمثل ورقة رابحة له، كما أوقفت الإدارة هدر الأرواح والأموال الأمريكية في حرب لا نهاية لها.
هذه النتيجة بالتأكيد لن تقنع المتشددين على الطرفين الطالباني والترامبي واللذين سيتحركون لإفشالها، وستظل على المحك لفترة طويلة لاختبار قدرتها على التنفيذ والصمود، وفي حال نجاحها فإنها ستقدم نموذجا ملهما لإنهاء العديد من الأزمات السياسية الإقليمية بالطريقة ذاتها، حين يقتنع أطراف تلك النزاعات بعدم جدوى استمرارها، لكن من المهم بالنسبة للأطراف التي تبدو ضعيفة في معادلات الصراعات أن لا تستسلم للحظات الضعف، وتسعى لتحسين وتطوير قوتها( الخشنة إذا كانت في مواجهات عسكرية مثل فصائل المقاومة الفلسطينية، والحالة الليبية، أو القوة الناعمة إذا كانت في مقاومة سياسية لنظم محلية عسكرية واستبدادية كما هو الحال في مصر).
لا يحتاج الأمر إلى تفصيل فيما يخص الوضع الفلسطيني والليبي والسوري حيث لا صوت يعلو فوق صوت السلاح، ولا تسوية سياسية بمعزل عنه كما يجري الآن، لكن النزاعات السياسية المحلية في بعض الأقطار مثل مصر تحتاج إلى رؤية مختلفة لاستخدام أدوات القوة الناعمة ضد النظام الإنقلابي المستبد، فليس بوسع القوى المناهضة للنظام ان تستخدم السلاح في مواجهته، لأنها بذلك ستحول المقاومة السياسية إلى حرب أهلية يخسر فيها الوطن كله، كما أنها بالتأكيد لن تكون في وضع مكافي ولا “ربع” مكافئ لقوة النظام التدميرية مهما حازت من أسلحة من هنا أو هناك، ناهيك بطبيعة الحال عن الموقف الديني الرافض لقتل الأبرياء، لكن هذه القوى المناهضة للنظام عليها أن تسعى لامتلاك كل أدوات القوة الناعمة من تحالفات سياسية محلية وإقليمية ودولية، وتحركات وتحالفات قانونية وحقوقية، وأدوات إعلامية وفنية، وحراك ميداني كلما أمكن ذلك، وجملة هذه الأدوات ستجبر النظام حتما في نهاية المطاف على الرحيل أو القبول بالتسوية السياسية، فهو ليس أقوى من أمريكا التي لم تستطع الاستمرار في مواجهة طالبان، والقوى المناهضة له لن تكون أقل من طالبان حين تمتلك تلك الأدوات، وإن كانت طالبان قد امتلكت أدوات القوة الخشنة من صواريخ وقنابل وعربات عسكرية فهذا هو الوضع الطبيعي في بيئتها القبلية المعتادة على تلك القوة طيلة السنوات الأربعين الماضية، كما أن الوضع الطبيعي في بلد مثل مصر هو امتلاك أدوات القوة الناعمة، ففيها “الكفاية” للخلاص.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
