“خلاويص” السينما ترصد صناعة الأوهام الإعلامية

استطاعت أفلام سينمائية عديدة عبر تاريخها أن ترصد هذه الظاهرة، ورغم أن أجهزة المحمول لم تظهر إلا مؤخرا فإنه كانت هناك وسائل أخرى.
أحيانا يجد مسؤول الإعلام من الأجهزة الأمنية نفسه أمام قضايا ضخمة وقرارات سياسية من الصعب تمريرها، فيصنع حالة وقضايا مختلفة يصدرها للجمهور عبر وسائل الإعلام ذلك من خلال رسائل السامسونغ التي اشتهرت مؤخرا، ومعها ما يسمي باللجان الإلكترونية التي يحسن النظام وأجهزته استخدامها في التبرير لقراراته أو الهجوم على الشخصيات المعارضة لسياساته.
استطاعت أفلام سينمائية عديدة عبر تاريخها أن ترصد هذه الظاهرة، ورغم أن أجهزة المحمول لم تظهر إلا مؤخرا فإنه كانت هناك وسائل أخرى لصناعة هذه القضايا. ومن أبرز الافلام التي أشارت إلى هذه الظاهرة “اللص والكلاب” و”الهروب” و”خلطبيطة” وأخيرا فيلم “خلاويص”!
وسوف أبدأ الرصد من الفيلم الأخير، نظرا لصعوبة تقديم مثل هذا الفيلم مع ما تعانيه السينما وما يعانيه الواقع السياسي في ظل حكم السيسي، وهو الفيلم الذي يتحمل مسؤوليته الممثل المصري المنتمي إلى جيل ثورة 25 يناير “أحمد عيد” وهو من الممثلين القلائل في جيل السينما الحالي الذين يحاولون تقديم سينما ذات مذاق خاص، منذ أول أفلامه التي لعب فيها أدوار البطولة، وهو فيلم ثقافي، ثم الفيلم التالي له “ليلة سقوط بغداد” وكلاهما أثار ضجة كبيرة عند عرضه سواء سينمائيا أو تلفزيونيا.
وخلال السنوات الأخيرة فيما بعد ثورة يناير حاول أحمد عيد أن يقدم أفلاما أخرى يلتزم فيها بقيم أرستها يناير، ويؤكد ارتباطه بها، فقدم “يوم سعيد” و”ياباني أصلي”، وأخيرا قدم عيد فيلم “خلاويص” وهو تأليف فيصل عبدالصمد ولؤي السيد وإخراج الشاب الواعد خالد الحلفاوي، إنتاج 2018.
في ظل نظام يحاول أن يسدد الخانة في كل ما يقابله من مشاكل، فطبيعي جدا أن تحدث فبركة وما يسميه المصريون “تسديد خانة” من هذه النقطة يبدأ فيلم “خلاويص” الحكاية إذ يفاجأ مواطن بوحدة تنفيذ الأحكام تقبض على ابنه ذي السنوات الخمس لتنفيذ حكم ضده بالسجن ١٥ سنة بتهمة التظاهر ومقاومة السلطات ومحاولة قلب نظام الحكم، يتعجب الجميع من الحكم، كيف لطفل عمره في الخامسة أن يحكم عليه بهذه التهمة؟!
الإجابة على السؤال تستدعي منا أن نتذكر سويا قضايا كثيرة أقحمت فيها أسماء أبرياء كثيرين من أمثلتها الشاب القبطي في قضية مركز شرطة بني مزار بمحافظة المنيا والذي اتهم بمهاجمة المركز والانتماء إلى جماعة محظورة ومقاومة السلطات، وحُكم عليه بالسجن المؤبد، ووقف الشاب أمام القاضي ليقسم أنه مسيحي ولا ينتمي للجماعة المحظورة ولم يقاوم السلطات.
مثال آخر أكثر قسوة: هؤلاء الشباب التسعة الذين حُكم بإعدامهم في قضية مقتل النائب العام المصري، وهو ما أثار حزنا عاما إذ تمت محاكمة أكثر من أربع مجموعات بنفس التهمة وقتل آخرين، وقيل وقتها إنهم قتلوا النائب العام.
بينما نعرف أن أبانا الذي في المخابرات يتابع أحداث الشارع المتطورة سريعا، وفي مجتمع وسائل التواصل الاجتماعي يظهر هاشتاج “خرجوا علي من السجن”.
أثناء ذلك كانت الحكومة مشغولة بتمرير حزمة من القرارات الاقتصادية السياسية ورغم انزعاج المسؤول عن الإعلام في البداية من قضية علي، فإن الأوامر تأتي له بتصعيد القضية لمزيد من انشغال الشارع بها حتى تمرر القرارات.
وهنا تأتي أوامر السامسونغ الصادرة من المسؤول الأمني للإعلام بالتصعيد وخاصة مع دخول الأب السجن لتصبح قضية الابن والأب هي القضية الأشهر على الشاشات التي تدار بالريموت كونترول وعبر رسائل الهواتف المحمولة.
هكذا يستغل مسؤول الإعلام في فيلم خلاويص لأحمد عيد الأحداث سواء صعودا وهبوطا حسبما تقتضيه ظروف الحكومة مستغلا كذلك ظروف شخصيات الأحداث.
الفيلم يشير بوضوح شديد إلى أخطر قضية تواجه تطور الحالة السياسية والشعبية في مصر، خاصة في ظل ما تعانيه من مشاكل كبيرة، مثل قضية المياه وسد النهضة. أو قضية الفيروس كورونا التي ظهرت حديثا وقضايا أخرى أقل خطورة مثل تصاعد الديون إلى رقم ١١٠ مليارات دولار وفي ظل هذه الأحداث تلعب الأجهزة وما يسمى باللجان الإلكترونية دورا كبيرا في تضخيم أحداث صغيرة وتزايد الاهتمام بها لدي قطاعات كبيرة في مقابل تقليل اهتمام بقضايا أكثر خطورة على الناس ومستقبلهم.
تم رصد هذه الظاهرة في السينما قديما، وأشار إليها فيلم اللص والكلاب عن رواية الأديب الكبير “نجيب محفوظ” ومن إخراج “كمال الشيخ” وبطولة الممثل المصري “شكري سرحان”، وفي هذا الفيلم ظهرت أيضا قضية إعطاء الأجهزة اهتماما كبيرا لقضية عادية واستغلالها.
ففي الفيلم يدخل “عليوة” السجن في قضية سرقة وأثناء وجوده يتعرف على أحد الصحفيين الذي يساهم في تشويش أفكاره ويخرج من السجن مصمما علي الانتقام ممن دفعوا به إليه و رغم براءة الرجل الظاهرة فإن الأمن السياسي وفي ظل أوضاع سياسية وبمساعدة الصحفي زميل السجن يتمكنون من تحويل عليوة من رجل عادي متهم في قضية عادية إلى سفاح تتبارى وسائل الاعلام في رصد أخباره وإفساح مساحات له، ورغم معرفة الأجهزة ذلك فإنها تصدر أوامرها بالاستمرار في التصعيد الإعلامي، وعندما تنتهي الأزمة لا تجد في النهاية طريقا للخلاص من صناعتها سوى بالخاص منه بعد أن استنفد دوره في انشغال الشعب عن قضايا أخرى.
في فيلم الهروب إنتاج 1991 يرصد الكاتب مصطفي محرم والمخرج عاطف الطيب بطولة الفنان أحمد زكي ظاهرة صناعة قضايا ينشغل بها الشعب من خلال “منتصر” بطل الفيلم ابن الحاجر بجنوب الصعيد، الذي تعرض لخدعة من أصدقاء له في قضية سفر عمالة إلى الخارج ليدخل السجن ويقضي فيه سنوات ليخرج منه مصمما على الثأر.
ورغم أن ضابط أمن الدولة يجد أن القضية عادية لا يهتم بها، فإنه مع تصاعد المظاهرات في الجامعة عقب أحداث ضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس واغتيال سليمان خاطر المتهم بقتل مجموعة من الصهاينة على الحدود المصرية مع الكيان الصهيوني وحادث لوكيربي. فإن ضابط أمن الدولة بنفسه يقرر تهريب منتصر بطل الفيلم ليكمل رحلة ثأره، مستغلا الإعلام في صناعة سفاح لا يجد مفرا في نهاية الفيلم من قتله لينهي أسطورة صنعها بنفسه.
الفيلم الرابع الذي رصد هذه الظاهرة كان فيلم “خلطبيطة” من إنتاج 1994 تأليف وإخراج مدحت السباعي، وبطولة محمود عبد العزيز وهو الفيلم الذي يظهر قضية الهواجس الأمنية لدي المواطن ورعبه من أجهزة الأمن. ورغم الظهور السياسي الواضح لرجال الأمن في الفيلم، فإن الفيلم يشير إلى قضية صناعة بطل وهمي من موضوع عادي، وفي هذا الفيلم إضافة أخرى وهي أحزاب المعارضة التي حولت شخصا عاديا إلى بطل سياسي رغم إدراكها أنه بلا تاريخ سياسي، لكنها نفس الحكاية: صناعة اهتمام شعبي في مقابل مصالح سياسية.
هكذا كان للسينما دور عبر عديد من أفلامها في كشف دور قد يلعبه الإعلام في صناعة قضايا وهمية ومع استطاعة كل من يمتلك حسابا على وسائل التواصل أن يدلي بدلوه يصبح من الضروري علينا أن نتحسس عقولنا في التعاطي مع ما يبث لنا عبر هذه الوسائل حتى لا نساهم في التغطية على مشاكل وقضابا أخطر على مستقبلنا.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه
