كيف نُنهي الصراع بين السُّنة والشيعة ؟
الأمم العاقلة التي وعت درس التاريخ وصلت لآليات تتعلق بتقنين الاختلاف وإدارته، ووضعت من الإستراتيجيات ما يكفل لها عدم دخولها نفق التجربة الطائفية من جديد، ونحن فى المنطقة الإسلامية والعربية ما زلنا بعيدين عن الاستفادة من الخبرة الإنسانية العالمية الناجحة في تجاوز الشقاق والوصول إلى بر الوئام و الوفاق،فهل يمكننا أن نجد حلًّا شافيًا فى ضوء الخبرات العالمية يساعدنا فى تجاوز المعضل الطائفي الشيعي/ السني الذى يُمزق المنطقة؟
الإجابة هي: نعم ، فهناك مخزون حضاري عالمي فى تجاوز شعوب وأمم عديدة للأزمات الطائفية والعرقية عبر العديد من الإستراتيجيات الناجزة والمفيدة، والتي يمكن الاستنارة بها ونحن نفتِّش عن حلٍّ لأزمات العالم الإسلامي الطائفية، وفيما يلي عرض لأهم هذه الخطط:
والتى تعتمد على نقد الأفكار الانقسامية نقدًا عميقًا، بحيث ينفذ النقد إلى الطبقات العميقة لهذه الأفكار في شكل تحليل دقيق وعميق، يشبه طريقة الطبيب النفسي في تعامله مع التاريخ النفسي للمريض من خلال الغوص في تفاصيل حياته اليومية وما صادفه من أحداث؛ أملًا في العثور على عقدة المرض، وبعدها يبدأ في وصف العلاج، منطلقًا من تفكيك هذه العقدة. وقد استعملت أوروبا هذه الطريقة في تفكيك الأفكار التي عصفت بها في عصور ما قبل النهضة والحداثة، بحيث أصبح من العسير أن تجد الأفكار الانقسامية لها سوقًا أو رواجًا أو أنصارًا يدعمونها على مستوى الداخل الأوربي. وليست هذه دعوة لاستنساخ الحل الأوربي؛ بل دعوة لإبداع حلول مبتكرة انطلاقًا من ثقافتنا وهويتنا العربية والإسلامية؛ إذ ما زالت الأفكار الانقسامية تمتلك أنصارًا وحشودًا عند كلٍّ من السُّنَّة والشيعة، ولها القدرة على الفعل في العديد من الأرجاء الإسلامية، ولا يقتصر تأثير الأفكار الانقسامية على فصيل دون آخر ، أو طائفة دون أخرى، فالطرف السني ليس جسدًا واحدًا، ولا الطرف الشيعي جسد واحد، بل في حقيقة الأمر كلاهما منقسم إلى عدة تيارات، ومعرض ومرشح في نفس الوقت لعدة انقسامات جديدة، يعادى بعضها بعضًا أحيانًا.
فهذه الروح النقدية للأفكار الانقسامية في الأمة الإسلامية ما زالت خجولة ولا تشكل تيارًا عامًّا في جسد الحالة الثقافية الإسلامية؛ بل في كثير من الأحيان لا تتوفر لها منابر ثقافية للتعبير عن رؤيتها للأحداث الجارية .. ومن أولى مراحل علاج هذه الأفكار الطائفية القاتلة عمل التالى .
أولًا: التعرف على واقع الاختلاف الفكري والثقافي السائد بين السنة والشيعة.
ثانيًا: معرفة المنظومة الفكرية لكل طائفة وجماعة وتطورها عبر الزمن وما تحوي من أفكار.
ثالثًا: رفع الواقع الطائفي كما هو وبكل موضوعية وإنصاف.
وأرى مثل هذا النوع من البحوث يحتاج إلى مزيد من الجهد والتأصيل. وفى هذا الصدد يذكر الأستاذ سليمان شفيق: أن المسلمين لهم السبق والريادة في مجال دارسة الملل والطوائف، وألفوا كتبًا بعضها خاص بطائفة من الطوائف وبعضها عام، فألف أبو الحسن الأشعري كتابه “مقالات الإسلاميين”، وألف عبد القاهر البغدادي كتابه “الفَرْق بين الفِرَق”،كما ألَّف ابن حزم الظاهري كتابه “الفِصْل في الملل والأهواء والنِّحَل“، ويعد كتاب “الملل والنحل” للشهرستانى دائرة معارف مختصرة للأديان والمذاهب والفرق.
تحويل إستراتيجية الحفر المعرفي إلى خطة عمل يتطلب بناء آليات ووسائل وأنشطة، تقنِّن للخلاف المذهبي والطائفي، وتضع له الأطر المناسبة، ومن ثَمَّ تنزع فتيل الأزمة من خلال:
أولًا : إنارة معرفية جديدة بالعلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع، وجغرافيا الأقليات، وعلم نفس الأقليات، ومقارنة الأديان، والفلسفة، بجوار الأدوات الشرعية التي استعملت وحدها في الفترات السابقة، ولم تفض إلى نتائج ذات بال. فعلى سبيل المثال دراسة العوامل المؤثرة في إدراك التباين الموضوعي (أى الاختلاف في الدين أو اللغة والثقافة أو الأصل القومي أو السمات الفيزيقية) بين السنة والشيعة، وما يترتب علية من نتائج بنائية وقيمية وسلوكية: مسار يحتاج إلى جملة من الجهود المتعاونة بين فرق الباحثين و العديد من الجامعات العربية، التي لا بد أن تسرع بفتح أقسام خاصة تتعاطى مع قضية الأقليات والطوائف من كافة الزوايا والأبعاد.
ثانيًا: بناء عالم مشاريع ثقافية وإعلامية وسياسية؛ إذ ينبغي أن تشهد المرحلة القادمة إطلاق العديد من المشاريع الفكرية والسياسيةالنوعية التي تساهم في معالجة الأزمة منطلقة من اعتبار أنَّ التَّنَوُّع العرقي والطائفي والمذهبي في المنطقة نقطة قوة وليس نقطة ضعف، كما عبَّر المناضل الأفريقي مانديلا عندما قال: “لقد نجحنا في تحويل التنوُّع في جنوب إفريقيا من تنوع اشتقاقي إلى تنوع اشتمالى”.
ثالثًا: تصويب المناهج المدرسية: ويتضمن وضع مناهج دراسية عربية وإسلامية تدعم مسار التوافق والسلم الاجتماعي بين كافة المذاهب والطوائف الوطنية . ويمكن في هذا المسار الاستفادة من التجربة الأيرلندية، وخاصة مشروع (نحو تجاوز الطائفية) الذي يطبق في المناهج هناك بعد إنهاء الصراع الدامي بين الطوائف المسيحية المتصارعة.
وفى حال تجاهلت الأُمَّة الأخذ بالإستراتيجية الأولى، ولم تبذل العَرَق والجهد والمال فيها؛ لن يكون أمامنا سوى التعلم بطريقة أخرى مؤلمة وغير مضمونة النتائج وهى:
تركز هذه الإستراتيجية على سيناريو الاقتتال الداخلي، فعبر الدماء التي سالت والأشلاء التي مُزقت والأديرة والمكتبات التي حُرقت اقتنع كلُّ طرف وطائفة بالقارة الأوربية في نهاية المطاف بفشل إستراتيجية إفناء الآخر والقضاء عليه نهائيًّا من الوجود. وأعتقد أنَّ كلَّ عاقل حريص على مصالح الأمة الإسلامية لا يفضِّل الخوض في هذا المسار الدامي والمؤلم والذي يُولد الحقد الأسود العابر للزمان والمكان. وهذه الإستراتيجية تبدأ في العمل عندما نستمر فى عمل ما يأتي:
أولًا : استعلاءُ كل طرفٍ على الآخَر، وإدعاؤه امتلاكَ الحق المطلق أو الصوابية المطلقة،
ثانيًا : استدعاء النصوص الدينية والروايات التاريخية الداعمة لبعض مفاهيمها.
ثالثًا: الانزلاق نحو هاوية العداء والنزول إلى ميدان السلاح والنِّزَال بعد التعبئة النفسية؛ إذ ما يقع الآن في الساحة الإسلامية من سجال سني / شيعي يقف بنا على أعتاب مرحلة خطيرة تتراوح بين حد الاقتتال الدموي في بعض المناطق (مثل العراق وسوريا)، ومرحلة الاستعلاء والاستدعاء في مناطق أخرى (مثل لبنان وبعض دول الخليج)؛ مما يدفع بالجميع نحو سيناريوهات متوقَّعة في ظل الوضع المذهبي المحتقِن الآن، هي :
السيناريو الأول : استمرار حالة الاحتقان المذهبي متمثلة في تصريحات العلماء والمراجع، واستمرار الحملات الإعلامية الرخيصة للعديد من الفضائيات والإذاعات والصحف، مما يدفع للسير في مسار مرحلة الاستعلاء والاستدعاء، التي إنْ استمرت بكثافة عالية ربما تؤدى لمرحلة العداء والصراع الدموي الذي ربما لا يقف عند بقعة جغرافية بعينها، وسيأتي على الأخضر واليابس، خاصة في ظل وجود احتلال مباشر للعديد من الدول الإسلامية.
فى نهاية المطاف يجب على الجميع أن يعي درس التاريخ، وأن نستفيد من التجارب البشرية الراشدة في إبداع حلول عملية لأزماتنا الداخلية وفق قيمنا وثقافتنا التي كانت في فترات تاريخية مضرب المثل في قيم التسامح والعدالة، وكانت الملاذ الآمن للعديد من الطوائف المهاجرة والهاربة من الاضطهاد ومحاكم التفتيش الأوربية.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه