فلسفة المال .. حقيقة تجهلها الرأسمالية المصرية
الرأسمالية المصرية الحديثة، التي تكونت بعد ما سُمى بالانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، تفتقد إلى التكوين الطبيعي للثروة
صدمت تصريحات بعض رموز الرأسمالية المصرية الرأي العام، بشأن منطقهم في التعامل مع أزمة كورونا، وكانت التصريحات محل الانتقادات، في مجملها، لانها تضمنت حرصهم على ثرواتهم ومكاسبهم فقط، وأهملت في نفس الوقت المحافظة على صحة العاملين، أو تجنيب العمال على الأقل للآثار السلبية لوباء كرونا.
فكانت التصريحات من عينة، ضرورة عودة النشاط الاقتصادي وإلغاء الحظر، بسبب الخسائر الاقتصادية، ومخافة إفلاس البلاد، أو لا مانع من موت البعض مقابل عودة النشاط الاقتصادي. وهذه التصريحات تأتي لتفسر نظرة بعض رجال الأعمال للمال، وهم متأثرون في ذلك بثقافة رأسمالية، تعلي من المال والثروة، بأي ثمن، حتى ولو كان ذلك على حساب حياة الإنسان.
وسلوك البعض من رجال الإعمال هؤلاء، يذكر بقسوة السلوك الرأسمالي، بما سطرته الأدبيات الاقتصادية عن واقع أزمة الكساد الكبير على حياة الناس، ففي إحدى المدن الأوربية الكبرى، أرتعد الطفل الصغير من البرد وطلب من أمه أن تدفئ البيت، فقالت له ليس عندنا فحم، فقال الطفل لأمه: ولماذا لا يوجد عندنا الفحم، قالت الأم: لأن أباك لا يعمل، فقال الطفل: ولماذا لا يعمل أبي؟، أجابت الأم: لأن الفحم في الأسواق كثير!!
وإن كانت أزمة وباء كورونا، قد كشفت في بلدان رأسمالية غربية وفي أمريكا، عن سلوك مخالف عما بدر من بعض رجال الأعمال المصريين، حيث قدموا التبرعات للجمعيات والمواطنين، أو حافظوا على العمالة، وتخفيض رواتب الإدارة العليا، ومكافآت المديرين، حتى يستطيعوا الاستمرار لأكبر فترة ممكنة لمواجهة وباء كورونا، بأقل تكلفة سلبية على الصعيد الاجتماعي.
الرأسمالية المصرية الحديثة، التي تكونت بعد ما سُمى بالانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، تفتقر إلى التكوين الطبيعي للثروة، فضلًا عن أن تكوينها الاجتماعي، لا يمثل ميراثًا من العلاقات الممتدة، لأسر رأسمالية أو إرث صناعي أو تجاري ملموس في الحياة الاقتصادية المصرية.
فغالبية رجال الأعمال الذين برزوا في عهدي السادات ومبارك، كان مصدر ثرواتهم، من المضاربة عبر صورها المختلفة، أو الممارسات غير القانونية، في مختلف الأنشطة الاقتصادية، ففي عصر السادات كانت المضاربة على سعر الصرف، وممارسات الفساد عبر نشاط الاستيراد، هما مصدر الثراء لمن برزوا في هذه الفترة.
أما عصر مبارك، فكانت له ممارسات أخرى ضمت إلى جوار الأنشطة التي مورست في عهد السادات، المضاربة على أراضي الدولة والبورصة، وكذلك التلاعب بأموال البنوك، كما كان لتصاعد ظاهرة ما عرف بزواج السلطة والثروة في عهد مبارك، أثر بالغ في تكوين ثروة عدد ليس بالقليل من رجال الأعمال.
وكان نتيجة ذلك ضعف الأداء الاقتصادي المصري بشكل عام، فالقطاع الخاص، لم يبنِ قواعد إنتاجية قوية، ولم ينتج تكنولوجيا أو يوطنها، كما لم يحدث طفرة ملموسة في الصادرات السلعية، بل زادت حدة الواردات في عهدهم بشكل كبير، ولم يستطع القطاع الخاص أن يقوم بالمهمة التي أوكلت إليه بقيادة التنمية، فكانت النتيجة، أن تخلت الدولة عن هذا الدور، وأخفق القطاع الخاص في الدور المنوط به.
البعض لديهم تصورات منقوصة عن المسؤولية الاجتماعية، التي تلزم الرأسمالية، أو أصحاب رؤوس الأموال، حيث يتخيل رجال الأعمال أو عموم الناس، أنها مجرد التبرع في مناسبة، أو لهيئة، مرة أو عدة مرات، وهذا لا غبار عليه، ولكنه لا يعبر عن جوهر المسؤولية الاجتماعية.
فجوهر المسؤولية الاجتماعية، يكمن في بقاء رجال الأعمال ومؤسساتهم وثرواتهم في خدمة المجتمع، فينتجون احتياجاته الضرورية أولًا، ثم الكماليات، ولا يوظفون ثرواتهم أو مؤسساتهم فيما يضر المجتمع، من احتكار أو منافسات ضارة، أو النيل من حقول العمال، وأن يحرصوا على دفع حقوق الدولة من ضرائب ورسوم، وألا يستغلوا ثروات المجتمع بأشكال غير قانونية، تخل بمبدأ العدالة الاجتماعية.
والملاحظ أن الرأسمالية المصرية، أو رجال الأعمال منذ عهد السادات وحتى الآن، أنهم حصلوا على كثير من المزايا من الدولة ومصارفها، سواء كان ذلك بشكل قانوني، أو غير قانوني، ولم يوفوا بحقوق المجتمع بالشكل المطلوب، وبخاصة في الملمات.
وليس المجال هنا لذكر مساوئ رجال الأعمال في مصر، ولكن الأمر كان يقتضي أن يكون لمجتمع الأعمال دور مختلف في أزمة كورونا، يعمل لصالح مؤسساتهم وثرواتهم، وفي نفس الوقت يحافظ على العمال وحياتهم، من خلال طرح تصورات، لكيفية تأمين منشأت الأعمال وتعقيمها، وكذلك العمال، وضرورة فحصهم بصورة دوية تؤمنهم، وتؤمن ذويهم بعد عودتهم لبيوتهم.
وكذلك التنسيق فيما بينهم، لتأمين احتياجات البلاد من السلع الرئيسة والأساسية، والتعاون مع مؤسسات المجتمع الأهلي للقضاء على الاحتكار والغش، ومواجهة محاولات البعض استغلال هذه الأزمة لتحقيق مكاسب غير مشروعة عبر رفع الأسعار.
في هذه الأزمة، يأتي تصور الإنسان للإله والكون والحياة وطبيعة العلاقة بينهم، ليفسر لنا كثيرا من تصرفات الناس، سواء كانوا تجارا أو مستثمرين، أو علماء، فمنهم من يسعى لخدمة البشرية والخلاص من هذا الوباء، وإن كلفهم ذلك تراجع أو فناء ثرواتهم، ومنهم من يسعى لاستغلال الأزمة، لتتضاعف ثروته، في حين أنه يرى أن الخطر يهدد الجميع، وأن الموت نُصب عينه، قد يخطفه في لحظة، ولا ينفعه ماله وثروته في شئ.
والإسلام حينما جعل ملكية الناس للأموال، ملكية استخلاف، لم يكن يصادر تطلعاتهم لحب الثروة وتراكمها، ولكنه احترم هذه الملكية، كونها ملكية خاصة، وخصها بضمانات الحماية اللازمة، ولكنه أوجب على أصحاب المال، أيًا كانت قيمته، أن يستخدمه في عمارة الأرض، وفيما ينفع الناس.
ولذلك يُسأل الإنسان في أولى مراتب الآخرة، عن ماله “من أين اكتسبه، وفيم أنفقه” وهذا السؤال يظل يلازم الفرد منذ بدايات كسبه، وحتى ينتهي عمره، ليذكره بالرسالة الكبرى في هذه الحياة “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وأن الملكية الحقيقية للمال، إنما هي لله عز وجل، وأن ملكية الناس هي ملكية استخلاف، وعليهم أن يحسنوا التصرف فيها.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه